منهج للبناء الفكري الأسس والمبادئ الضرورية

تكبير الخط تصغير الخط

المؤلف: د. محمد بن إبراهيم السعيدي
الناشر : دار الوعي للنشر

—————————–

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه و من نهج نهجه إلى يوم الدين أما بعد:
بين يدي هذه الرسالة أقدم للقارئ الكريم خواطر لا أعلم بماذا سيصفها القاريء , هل سيقول عنها: عميقة , أم سطحية ؟
بصيرة أم ساذجة ؟
أواضحة سيقول عنها أم غامضة ؟
تلقائية أم متكلفة ؟
والأرجح عندي أن يُقال عنها كلُ ذلك , تختلف الآراء باختلاف الذوائق والانتماءات بأنواعها .
وفي كل الأحوال فهذه الخواطر هي الباعث الأصلي لكتابتي هذه الأوراق التي بين يديدك.
(1)
الحق واحد غير متعدد ، إلى هذا ينتهي الفكير السليم حين يدرُس مسألة الحق و اختلاف الناس فيه ، و هذه المسألة من المسائل القديمة التي تحدث عنها اليونان و الإسكندريون ثم تحاور فيها علماء الكلام في التراث الإسلامي و ما زالت حية في الفلسفة المعاصرة مع اختلاف المعاصرين مع من سبقهم في كيفية طرحها و وطريقة مناقشتها .
وجزمُنا بأن الحق واحد هو مذهب أهل السنة و الجماعة إذ لا يمكن أن يكون في المسألة الواحدة أكثر من رأي و يوصف الجميع بأنه حق لأن ذلك يؤدي إلى اجتماع النقيضين وهو محال عقلا كما أنه قول ينتج عنه اتهام التشريع بالعبثية وربما أدى الإيغال فيه إلى إنكار الدين بالكلية بل إنَّ الشك في المسلمات و المحسوسات ناتج حتمي للقول بتعدد الحق .
ولا شك أن كثرة الإختلافات و شيوعها بين الناس و ظهور أدلة كل فريق لما يعتقده من آراء أحد بواعث الحيرة و الإضطراب في قلوب الناس لاسيما في زمن ابتعد أكثرهم فيه عن التأصيل العلمي و عن التقليد لأهل العلم و التسليم لأقوالهم فيما هم أبصر به من العلوم ، وكثر أهل القلم كثرةً لم تُعهد في زمانٍ قبل هذا , وليست هي المشكلة لولا أن كثيراً ممَّن ملك آلةً للكتابة لم يعد يحقر نفسه عن تناول أصعب المسائل و أدقها و أكثرها حرجا ، لا بالعرض و الإستقصاء كما هو الذي ينبغي أن يكون بل بالنقد الجريء الذي قد يصل إلى درجة المصادرة لآراء أهل الشأن الذين بحثوا فيه و ألفوا و درَسُوا و درَّسُوا مصادرةً لا تخلوا في كثير من الأحيان من استخفاف و تقدم بين يدي العلم و أهله دون أن يجد كاتبُ كلِ ذلك في نفسه حرجاً في اقتفاء ما ليس له به علم , مخالفةً لقول الله سبحانه و تعالى ( ولاتقف ما ليس لك به علم إن السَّمع و البصر و الفؤاد كلُ أولئكَ كان عنه مسؤلا ) .
(2)
يروق لي أن أصف عصرنا الحاضر بعصر الفكر للجميع , فلم يعد هناك طبقة قليلة من الناس تفكر بينما الأخرى والأكثر عدداً حظها أن تنقاد لما يقوله الأكثر علماً والأنفذ بصيرة والأرجح رأيا .
الكل أصبح يعتقد أن من حقه قول ما يريد ومناقشة ما يشاء ومن يشاء .
وهي سمة محمودة لهذا العصر لو صاحبها من التأصيل العالمي ما يُكافيء فضاء الانطلاق الفكري الذي أصبح في كثير من الأحيان خارج نطاق السيطرة .
لكن العكس هو ما حصل , فنحن نشهد بين الهمم في التأصيل العلمي وبين التقدم الإعلامي تناسباً عكسياً , فكلما تقدمت وسائل انتشار الفكر ضعفت العزائم في اتجاه العلم , وهو ما جعل القدرة التي اكتسبها الناس على التفكير في كل شيء ونقد كل ما يفكرون فيه تنقلب إلى ظاهرة سلبية أو مرض ثقافي له عواقبه الخطيرة على المعتقدات و الأخلاق والمجتمع والسياسة , وذلك إذ لم تتول المؤسسات العلمية والبحثية وضع تدابير جادة وسريعة لتوجيه هذه الظاهرة بما يقوي بنية الأمة ولا يسهم في انهيارها .
حين يرتفع صوت الفكر المبني على أسس هشة مفتقرة للتأصيل ومتانة التفكير يخفت صوت الأفكار الثابتة ويضعف تأثيرها على الأمة , ويصبح الأثر الأقوى للأفكار النابعة من تلقاء النفوس

(3)
لا بد من عمل كبير ومنظم يتعلم الناس فيه طرائق التفكير كما يتعلمون القراءة والكتابة , وكما يمتلك الناسُ آلات الكتابة بأنواعها والتي أصبح القلم والقرطاس أقلها وأندرها استخداما في بعض البيئات , يجب أن يمتلكوا آلات للتفكير ربما لا تصل بهم إلى عين الحقيقة في كل حين لكنها تضعهم في دائرة الحقيقة أو في اتجاهها,فإن الوقوف في جهة الحقيقة ولو دون إصابتها أفضل بكثير من الوقوف في الجهة التي تقابلها .
(4)
حين يكتب الجميع ويتكلم الجميع يعلوا صرير الأقلام وأصوات الأفواه ويقل السامع والقارئ , هنا لا بد من قانون ينظم حركة الناس في تداول أفكارهم يشبه كما لهم قانون ينظم حركة سيرهم , إن ازدحام المسارات في بديات الصباح وفي عز الظهيرة أخف وطأة على النفس من تزاحم الأصوات في صيوان الآذان , إن هذا القانون هو الأسس المنظمة للحوار .
حين تعجبك هذه الخواطر فاقرأ الرسالة التي بين يديك فقد كانت هي محركي لكتابتها .
وحين لا تعجبك هذه الخواطر , فاقرأ الرسالة أيضا فقد تجد فيها ما يعجبك .

د محمد بن إبراهيم السعيدي
1/2/1433هـ

التعليقات

التعليقات مغلقة.