الاقتصاد الاسلامي مشروع من

تكبير الخط تصغير الخط

كان كارل ماركس يصف الوضع الاقتصادي الناتج عن نظريته بالاقتصاد الطبيعي ؛ نسبة إلى الطبيعة التي يزعم أنها كانت مَشَاعِيَّةَ الأشياء بين الخلائق ، وأن البشر وحدهم هم من خرج عن هذه الطبيعة ليدخلوا عبر التاريخ في سلسلة من التناقضات انتهت بهم٬ إلي الاقتصاد الرأسمالي الذي لن يسلم هو أيضا من الاجتثاث حينما تنموا نقائضه في داخله ؛ لذلك فالحل عنده هو إنهاء حركة التاريخ وذلك بالعودة إلى العالم المَشاعي الذي يُقَدِّر ماركس تاريخ وجوده بالعصور الأولى لبداية وجود الإنسان على هذه الأرض.
هذه الفكرة التي صِيغت بأسلوب فلسفي لم تكن علمية وليس لها ما يؤيد وجودها حقاً في أي زمن من حياة البشرية ، كما أنها تُنَاقض الميول الطبيعية للبشر من حب التملك ، والطموح إلى التميز ، وبناء المجتمع على أساس الأسرة ؛ لذلك لم يجد ماركس من سبيل إلى التنظير لتحقيق فكرته إلا عبر مشروع الثورة الحمراء ودولة الحديد والنار التي ستفرض المرحلة الاشتراكية بالقوة تمهيدا للعهد الشيوعي الذي تتوقف عنده عجلة التاريخ كما ابتدأت به.
وهذه الأفكار الغريبة الحمقاء التي تجعل مثالها تاريخ سحيق مزعوم ليس له وجود إلا في مخيلتها يُصِر أتباعها حتى اليوم على تسميتها تقدمية وتسمية ما عداها رجعياً .
الاقتصاد الرأسمالي المضاد تماماً للاقتصاد الشيوعي يشترك معه في مبدأ أن الحل هو في العودة إلى الاقتصاد الطبيعي ؛ لكنه يختلف معه في توصيف الطبيعة التي كان عليها الاقتصاد في بداية علاقة الإنسان بالموارد .
فيرى أن المفترض أن تكون الحرية هي المرحلة الأولى حيث لم تكن هناك موانع تحول بين الإنسان وبين رغباته في الإنتاج والاستهلاك والاستحواذ ، وأن هذه الحرية هي التي نجمت عنها حاجة الإنسان إلى القوة ليحمي مكتسباته المادية ثم احتاج إلى النظام ليضبط علاقاته بالآخرين ، ثم تطور ذلك إلى نشوء الدولة التي كان من المفترض أن تكون بامتلاكها للقوة والقدرة على فرض النظام حارسةً لحريته في الإنتاج والاستهلاك والاستحواذ ؛ إلا أن نشوء الاستبداد في أعقاب نشوء الدولة أدى إلى انتهاء عصر الاقتصاد الطبيعي حسب التوصيف الرأسمالي ؛ لذلك فإن الحرية الاقتصادية في ظل نظام دولة ديمقراطي يكفل عودة الاقتصاد الطبيعي ليعيش العالم في نعيم تام .
الذي حدث: أن الاشتراكية الماركسية لم تنجح وأن الرأسمالية لم تنجح ، ولا تزال البشرية بأسرها تعاني من هذين النظامين ، إلا أن التجربة الماركسية سقطت بالكامل ؛ أما التجربة الرأسمالية فبالرغم من فشلها في أكثر من ١٥٠دولة من دول العالم البالغة ١٩٢دولة ، وتهديدها الخطير للدول الباقية ومن ضمنها دول أوربا وأمريكا الشمالية إلا أن السيادة لا تزال لها ؛ وكما أن معظم مشكلات العالم السياسية والأخلاقية والاجتماعية والمالية تعود إليها ، فإن العالم لا يزال مُصِراً على أن يجعل الحلول لهذه المشكلات منطلقة أيضا من النظام الرأسمالي .
ومنطقياً هذا الأمر مستحيل ،إذ لا يمكن أن تكون المشكلة هي الحل إلا في مخيلة الشعراء” وداوني بالتي كانت هي الداء” أو في صناعة المضادات الحيوية ؛ لذلك فإن جميع الحلول الرأسمالية التي تديرها دول العالم اليوم إما فاشلة وذات نتائج عكسية ، وإما في الطريق إلى الفشل ؛ كما تقرر ذلك خبيرة الاقتصاد والعلاقات الدولية لوريتانا بوليوني في كتابها ” الاقتصاد العالمي الخفي”.
والذي يظهر لي : أن الاقتصاد الإسلامي أيضا يرى أن العودة إلى الاقتصاد الطبيعي هي الحل ؛ لكنه يختلف مع الشيوعية والرأسمالية ليس في توصيف الطبيعة القديمة فقط ، بل في ماهية الطبيعة المنسوب إليها ؛ فبينما تعني الطبيعة في الفكر الغربي “الكون بجميع تفاصيله” فإنها تعني الجِبِلَّة أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لذلك فإن المبادئ التي أعلنها القرآن وتعتبر اليوم الأدلة الأصلية للاقتصاد الإسلامي تخاطب الجانب الأخلاقي للإنسان الذي هو الأساس في تكوينه ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)[يونس١٩] وفِي الحديث القدسي ” إني خلقت عبادي حنفاء وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم”.
لذلك فإن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يبدأ من إصلاح أخلاقي في جانب التعامل مع المال لا كثروة تقتضي الكنز والإنماء ، بل كنعمة من الله جعلها الله لقيام البشرية ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً)[النساء٥]فهذه الآية تضمنت عدة مبادئ اقتصادية منها: أن المال وإن كان ملكاً لهذا السفيه من حيث الاختصاص فهو ملك للأمة من حيث الانتفاع ؛ لذلك فلايصح تمكين السفيه من ماله حين يعود ذلك على المال بالتلف أو على الأمة بالضرر.
ومنها: أن المال خلق لغاية وهي تقويم الحياة وليس للتكديس والاحتجان أو التوسع في الاستمتاع أو التوسع في تنميته لذاته ؛ لذلك حرم الله تنمية المال بمال مشابه دون وسيط مغاير ؛ وهو الربا بنوعيه الفضل والنسيئة .
ومنها: أن الإنسان المالك للمال أوالقادر على إدارته تجب عليهم نفقة من لا يملك المال أو يملكه لكنه عاجز عن إدارته ؛ فالتكافل الاقتصادي بين الأمة من ضرورات النجاح الاقتصادي .
ويقرر الإسلام التدابير في سبيل عدم إفضاء التجارة إلى تكدس المال في يد فئة من الناس وهم الأغنياء ؛ فشرع الله قسمة الميراث والفيء والغنائم ؛ وهذا أيضا عودة إلى الأخلاق الفطرية التي تمقت احتكار المال وتَكَدُّسَه لدى فئة من الناس .
وأمر بالتوسط في الإنفاق ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)[٢٩الإسراء]
ومن هنا حمَّل القرآنُ المترفينَ مسؤولية كبرى في إفساد المجتمعات ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) [ الإسراء١٦] ولعل سر ذلك هو أن المترفين هم من يوجدون في المجتمعات أخلاقاً اقتصادية منافية للفطرة من إسراف وتبذير وإنفاق على المحرمات وإضاعة للموارد والمقدرات وسباق على الاستهلاك ؛ ويُشكلون بذلك إنموذجا يحتذيه سائر المجتمع مما يؤدي إلى هلاكه .
هذه أمثلة على الأخلاق الاقتصادية الفطرية التي دعا القرآن إليها ؛ وتأتي مرحلةُ تربيةِ المجتمع عليها سابقةً أو مصاحبةٌ لوضع أنظمة تُجَرِّم التعدي عليها ؛ فالتأسيس الأخلاقي للأمة أصل في إصلاحها الاقتصادي ؛ وهذا بعكس الاقتصاد الماركسي والرأسمالي حيث لا تُشَكِّل التربية الأخلاقية أهمية إلا بالقدر الذي تكون فيه الأخلاق جزءً من السلعة المقدمة .
ولهذا جاء في مقال صحيفة [أوبزيرفاتوري رومانو
]وهي كما يقال يملكها الفاتيكان في عددها الصادريوم 4/ 3/ 2009م للكاتبة لورينزو توتارو وكلوديا سيجري “إن المبادئ الأخلاقية التي ينبني عليها النظام المالي الإسلامي ربما تقرب البنوك من عملائها ومن الروح الحقيقية التي من المفترض أن تكون معلما لكل الخدمات المالية”[ هذا المقال وجدت مقاطع كثيرة منه عبر الشبكة الإلكترونية لكنني للأسف لم أجد ترجمة كاملة ومأمونة له ، أتمنى أن يحدث ذلك].
والحقيقة أن الاقتصاد الإسلامي فكرة لا يمكنها أن تتحقق مالم تكن مشروعاً لدولة قوية مالياً وتملك المنطلقات التربوية والأخلاقية التي دعا لها الدين ؛ وهاتان الصفتان فيما أعتقد معدومتان في بلاد الدنيا إلا في المملكة العربية السعودية ؛ ولذلك أجد أن تبني الدولة لمشروع إحيائي تطبيقي للاقتصاد الإسلامي ؛ وتقديم الحلول الإسلامية للعالم بشكل عملي سيكون غرة في جبين هذه الدولة الناصع .
وأعلم أن هناك مثبطون ومشككون بفاعلية وواقعية مثل هذا المشروع وإمكانية إقامته ؛ مع أنهم يعلمون جيداً أن آدم سميث استطاع بكتاب واحد أن آدم أن ينظر بكتاب ثروة الأمم للاقتصاد العالمي الذي نعيش اليوم ضمنه ؛ وكارل ماركس وإنجاز استطاعا التنظير لإقامة مشروعهما في أكثر من عشر دول في العامل منها اثنتين عضميبن ؛ بالرغم من خرافية أفكارهما ؛ فكيف لنا أن نتصور أن النظام الاقتصادي الإسلامي عصي على التطبيق !!

د محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

رد واحد على “الاقتصاد الاسلامي مشروع من”

  1. يقول نايف العتيبي:

    بارك الله فيك يا شيخ والقادم أجمل للإسلام والمسلمين إن شاء الله
    فالرأسمالية والشيوعية إلى زوال والإسلام يعلو ولا يعلى عليه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.