نيوم وتفكير البقشة

تكبير الخط تصغير الخط

بعد مقالتي :”مدينة نيوم ، تجاوز العقبات وتضافر الثوابت” بدت لي مشكلة في طريقة وزن الكثير منا للأمور وتقييمهم للأحداث ، ومن ثَمَّ تنشأ مشكلة أخرى في ردة الفعل تجاه هذا الأمر الحادث .
المشكلة : أن كثيراً منا حين يَقْبَل أمراً ما ، فإنه يُقْبِل عليه بِكُلِّيَتِه دون تمييز ويدافع عنه دفاعاً حاراً دون أن يُفَرِّق بين سلبياته التي ينبغي عليه أن يقف عندها ويُوجِد أو يدعو لإيجاد الحلول لها ، وبين الإيجابيات الغالبة التي من أجلها تَقَبَل الأمر وأقبل عليه ودافع عنه .
وآخرون حين يسوءهم أمر أو حدث ينصرفون عنه بالكلية ويشنأونه ويمقتونه ، دون أن يميزوا بين خيره وشره ، وقياس الغالب منهما ، وكيف يمكن قلب المعادلة لوظهر لهم غلبة جانب الفساد فيه .
فمشروع مدينة نيوم مثلاً هو من جهة كونه مشروع اقتصاد وتمدن وتوظيف وصناعة ونقل وسياسة لا غبار عليه- كما استقيت ذلك من متخصصين محايدين- إلا من جهة ما قد يعترضه من عقبات مالية وإدارية وسياسية ، وهذه يناقشها المسؤول وأهل الاختصاص.
أما من جهة ما قد يشوبه من شوائب المخالفات الشرعية وما قد ينتج عنه من التغيير القِيَمي فمثير للقلق ويمكن أيضا أن يعمل المسؤول مع ذوي الاختصاص لإزالة هذه الشوائب أو التقليل من مخاطرها .
المشكلة تكمن في أن من نظر إلى الجانب الأول من المشروع رفض أي مناقشة للاحتماليات الأخرى سواء العقبات اللوجستية أم القلق القيمي والأخلاقي .
ومن نظر إلى الجانب القِيَمي والأخلاقي رفض أي ثناء على المشروع في جانبه الحضاري والمدني .

وهذه الطريقة في نظري سيئة للغاية في تقدير الأحداث والمشاريع وتُحْدِث جواً من الصراع الفكري بين المجتمع بعضه مع بعض والمجتمع والدولة المسؤولة عن إدارته ورعايته .
هذه الطريقة سيئة للغاية لأنها غير عادلة وغير بناءة سواء أكان متبنيها أصحاب توجه ديني أم ليبرالي أم حتى لو تبنتها الدولة نفسها .
إن النقد المطلق لكل مشروع هو بالضبط مثل الثناء المطلق على كل مشروع مفسدة محضة .
إن تعاملنا مع الأحداث والمشاريع وكأنها بقشة نقبلها كاملة أو نرفضها كاملة طريقة صلبة في التفكير إما أن تكسرنا وإما أن نكسرها ، في زمان يصعب فيه جبر الكسور.
وحينما تأملت في تاريخ هذا التوجه في التفكير وتقييم الأمور ، وجدته للأسف قديما ، ويمكن أن أصفه بالمرض المزمن.
فحينما استقدم الملك عبدالعزيز رحمه الله أربع شركات أمريكية تحالفت مع المملكة في شركة أرامكو لم ينظر البعض من هذا المشروع إلا إلى احتمالية أن الأمريكان سيسرقون زيت السعودية فناهضوا الفكرة ومنهم من استغرقه هذا الشعور حتى أصبح معارضاً للدولة ذاتها مع أنهم كانوا يصفون أنفسهم بالتقدميين ؛ وكانت نهايتهم أن انكسروا أمام طريقتهم الصلبة في التفكير .
واليوم وبعد ثلثي قرن نرى هذه الشركة هي أعظم الأصول التي تملكها المملكة قيمة وأثراً.
نعم مشروع نيوم يمكن أن تكون لأجيال المستقبل مثل أرامكو بالنسبة لنا اليوم ولآبائنا بالأمس ؛ وما نخشاه منها من سلبيات وما يمكن أن تواجهه في طريقها من عقبات يجب أن نعالجه بالتفكير التفصيلي الذي يضع الإيجابيات في خانة ويضع السلبيات في الخانة المقابلة ويقوم بالموازنة ووضع الأفكار التي تدعم الإيجابيات ، والأفكار التي تقلص السلبيات .
فليس كل من يثني على المشروع مطبلاً كما يزعم البعض كما أنه ليس كل من يرفض المشروع مخلصاً .
والعكس أيضا صحيح .
والله أكبر.

د.محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.