البعث الاعتزالي وإسقاط العقل

تكبير الخط تصغير الخط

 

المستشرقون الذين لا يريدون من الإسلام إلا أن يكون كما يريدون هم أول من دعا في القرنين الأخيرين إلى إحياء الاعتزال ناعتين إياه بالعقلانية والثورة على الجمود دون أن يجرؤوا على تقديم دليل مستقيم  على ما يقولون، وتلقف هذه الفكرة عنهم بعض الكُتَّاب المسلمين، ومن أبرزهم: الكاتب المصري أحمد أمين في كتابيه: “ضحى الإسلام” و”ظُهر الإسلام”، فقد عقد في كل واحد منهما بابا خاصا للمعتزلة(١)، وأعلى فيهما من شأنهم، وتساءل ناعيًا المعتزلة قائلا: “هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟

في رأيي أن ذلك لم يكن في مصلحتهم”(٢).

وقد زعم أن حركة التطور العلمي قد خفتت بعد خفوت نجم المعتزلة، يقول: “فلما ذهب ضوء المعتزلة وقع الناس تحت سلطان المحدثين وأمثالهم من الفقهاء، وظلوا تحت هذا السلطان من عهد المتوكل إلى ما قبل اليوم بقليل، فكانت النتيجة جمودا بحتا”(٣)، فالوقت في زعم أحمد أمين  كان شؤماً على الإسلام، وأوقف التطور العلمي ليحل محله الجمود؛ وقد أصبحت هذه المقولة من مسلمات الكُتَّاب المنهزمين أمام الحضارة الغربية الذين وجدوا في الإسلام قبل ظهور البدع مشجبًا يعلقون عليه التخلف الحضاري عند المسلمين؛ الأمر الذي يلزم منه أن سبب التخلف هو الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه عنه أصحابه رضي الله عنهم، والإسلام الحضاري هو الإسلام كما فهمه المعتزلة !

وبلغ من افتتان الكثيرين من المثقفين بهذه الفكرة حد أن جعلها الأستاذ أنور الجندي إحدى عناصر المؤامرة على الإسلام وذلك في كتابه”المؤامرة على الإسلام”.

وفي ظل الهجوم على المنهج السلفي من مختلِف الجبهات الدولية والمذهبية، والسياسية وأدعياء التنوير من الليبروإسلاميين والليبراليين رجع إحياء هذه المقولة من قِبَل كُتَّاب ينتمون إلى خلفيات مذهبية اعتزالية وإن تظاهروا بالعلمانية أو الليبرالية؛ كرشيد الخيون، أو كتاب لديهم صعوبات في فهم التدين وعند بعضهم عداء للتدين كالطيب التيزيني، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وحين تقرأ في كتابات هؤلاء لا تجد لديهم أدلة حقيقية من الفكر المعتزلي وأدبيات علمائه على ما يَدَّعونه من تعظيم للمعتزلة سوى النفخ في أقوال المستشرقين؛ ثم يتلقى كلامهم شباب افتتن بالمعاصرة وفِكر المعاصرة، أو لديهم موقف من التدين أو العلم الشرعي السائد فينقلون أفكارهم دون أن يكون لهم أدنى دراية بحقيقة المعتزلة وما يدعون إليه.

فهل تعلم أيها القارئ: أنَّ المعتزلة يُنكرون صفات الله تعالى ويقولون: إن ما ذُكر في كتاب الله تعالى إنما هي ألفاظ لا تحمل حقيقة معانيها، فالله -تعالى عمَّا يقولون- سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عالم بلا علم، قدير بلا قدرة؛ وهكذا في بقية الصفات. يُعَبرون عن هذا المعنى بالعديد من العبارات، فمنهم من يقول: إن الصفات هي ذاته؛ فحين نصف ” العليم” فنحن نقصد ذاته وليست صفة زائدة عن ذاته، وتحججوا على ذلك بحجج أبعد ما تكون عن العقل، منها: ادعاؤهم أننا إن أثبتنا صفة زائدة عن الذات فلا بد أن تكون قديمة، وإذا كانت قديمة فقد أثبتنا إلهاً آخر غير الله فإذا أثبتنا الصفات فإن إثباتنا لها معناه تعدد القدماء وهذا يعني تعدد الآلهة! وفي بيان هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علما قديما، أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبها ممثلا، لأن «القدم» عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت لله صفة قديمة فقد أثبت له مِثلا قديما،ويسمونه ممثلا بهذاالاعتبار”(٤)،وكلامهم في هذا الأمر طويل ومعقد ومتناقض ولا يثبت واحدُهم على ما قرره الآخر فأين العقل منه؟ ومما ينافي العقل في مذهبهم :أنهم يفرون من تشبيه الخالق بالمخلوق ، ليقعوا في ما يلزم منه نفي الخالق ، إذ إن العقل يقضي بأن كل موجود لا ينفك عن الصفة،والله موجود، وما لا صفة له فهو معدوم،فلازم إنكار الصفات إنكار الوجود .

ولك أن تقارنه بقول السلف: إن لله تعالى صفات وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، نؤمن بحقيقتها، ونثبتها كما أثبتها الله ورسوله، ونجهل كيفيتها لأن الله لم يخبرنا عنها.

فالسلف عَرَفُوا العقل وعَرفُوا أن لا مجال له في عالم الغيب لأن مجال العقل فيما يَملِك العقلُ أدواتِ معرفته وعَالَمُ الغيب لا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الإلهي،  فاقتصروا في باب الصفات على إثبات ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل؛ وأما المعتزلة فلم يعرفوا حدود العقل لذلك ولَجُوا به في عالم الغيب، وجعلوا العقل في ذلك حاكٍماً على النصوص، والنصوص ثابته والعقول متفاوتة فاختلفوا في عباراتهم عن الصفات اختلافاً كبيراً ،لأنهم حَكَّمُوا المتفاوت المتغير في الثابت وهذا مما لا يُقرُّه المنطق الذي يجعلونه وسيلة لضبط العقليات.

ثُمَّ إن ما زعموا أنه العقل في فهم الصفات أبعدَ ما يكون عن العقل! فكيف يُقال إن إثبات الصفات يفضي لتعدد الآلهة؟ وأننا إذا أثبتنا لله علماً وسمعاً وقدرة نكون قد أثبتنا عدة آلهة ! أين العقل من هذا؟ وهل إذا قلنا: إن زيداً له سمع وبصر وحياة فهل يعني ذلك أن لدينا أكثر من زيد؟ فزيد واحد وهو حي له سمع وبصر ولله تعالى المثل الأعلى، فصفاته عز وجل لا تعني تعدد ذاته، وهذا موافق ليسر الدين ويسر العقيدة ؛أما فهمهم فهو عبث بالعقل وليس تحكيما وإعلاء له، وقد بين العلماء العقلاء :أن هذا الكلام مجرد سفسطة وهي مناقضة للعقلانية المدعاة، يقول الطحاوي: “وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة”(٥).

وثمت أمور كثيرة في باب الصفات -فقط- تدل على جهالة قاتمة لدى المعتزلة في فهم هذا الباب، فإن معدوم الصفات هو العدم، فهم قد راموا بعقلانيتهم نفي شبهه تعالى  بالمخلوقات فذهبوا يشبهونه بالمعدومات! وراموا تنزيه الله من النقائص -كما مدحهم بذلك أحمد أمين في ضحى الإسلام(٦)– فذهبوا ينفون عن الله علوه عن مخلوقاته، وسماعه لهم، وعلمه بأحوالهم، وقدرته عليهم، فأي عقل يرى تنزيهًا في نفي الكمالات؟!

 وبعيدًا عن موضوع الصفات؛ هل تعلم أن المعتزلة هم في التاريخ الإسلامي أول من استخدم الاستبداد السياسي لفرض آرائه العقدية على العلماء وذلك في عصر المأمون والمعتصم والواثق، وهو ما يعرف في التاريخ الإسلامي بامتحان العلماء في مسألة خلق القرآن(٧)، فقد فُرض امتحان العلماء؛ أي: سؤالهم عن رأيهم في القرآن، فمن قال: إنه كلام الله تعالى مُنَزَّل غير مخلوق سُجن ونُكل به. ومن قال: إن القرآن مخلوق نجا؛ وهي مسألة فرعٌ عن إنكار صفات الله تعالى التي يقول بها المعتزلة، ولاشك أن هذا منافٍ لدعوى العقل وتقديمه، فمن يُقدِّم العقل يمتنع أن يَحمل الناس عليه بقوة السلطان، وهذا من تناقضات مبجلي المعتزلة، إذ إنهم يمدحونهم في باب القدر لأنهم قالوا بالحرية المطلقة لأفعال العباد وأن العبد يفعل مالا يشاء الله ولا يريده كما سيأتي، فأين هذه الحرية في إجبار الناس على تقبل هذه العقيدة ، وكيف لهم أن يمدحوا القول بقدرة العبد على فعل مالم يرده الله ، ويمدحون المعتزلة حين يعاقبون من يرى خلاف رأي السلطان ؟!

ومعلوم أن كثيراً من الانحرافات العقدية نشأت في عهد بني أمية، ومع أن كبار خلفاء بني أمية كانوا يُصغون إلى نصائح علماء التابعين في الشام، إلا أننا لا نعلم أن علماء السلف هؤلاء أشاروا بامتحان الناس في أي مسألة من مسائل العقيدة كما فعل المعتزلة زمان دولتهم وكذلك كما فعل الأشاعرة حين آلت الدولة لهم. 

نعم أشار علماء السلف بمعاقبة من اشتغل على ترويج الانحراف العقدي بين الناس والدعوة إليه، وأطاعهم الخلفاء في غيلان الدمشقي والجعد بن درهم بعد نصحهما وتحذيرهما وإقامة الحجة عليهما؛ لكنهم لم يمتحنوا أحداً ويأتوا به من مأمنه ليسألوه عن رأيه في الصفات أو القدر ، فمن أجاب بما يوافقهم أطلقوه، ومن أجاب بما يُخالفهم عاقبوه؛ بل لهم عبارات كثيرة في ذَمِّ امتحان الناس في عقائدهم بعكس ما كان عليه الحال في عهد المعتزلة الذين لم يكونوا ينهون الناس عن مخالفتهم أو يأمرونهم بالصمت؛ بل كانوا يأتون إلى الرجل الصامت فيسألونه فإن أجاب بما يخالفهم عاقبوه حتى يرجع إلى قولهم. 

وقد قلنا إن المعتزلة قد أشاد بهم أصحاب الأقلام المفتتنة بدعوى العقل ومدحوهم برؤيتهم في باب القدر(٨)، لكن هل تعلم أن المعتزلة في باب القضاء والقدر عطَّلوا النصوص الشرعية وعطلوا العقل أيضا فخسروا العقل والشرع معاً؛ وذلك بسبب جهلهم صفةَ العلم لله تعالى الذي لا يحيط به أحد من خلقه، فهو عز وجل يعلم ما كان وما هو كائن ويعلم ما لم يكن،  فعلم ما خَلْقُه صانعون إذا خلقهم فَقَدَّره سبحانه عليهم وكتب ما قدَّر وقضاه فيهم؛ وجعل الدنيا دار اختبار وابتلاء وامتحان فَمَكَّنَهُم من فعل الخير وتهييء إسبابه ومكنهم من فعل الشر وتهييء أسبابه؛ وشاء سبحانه وأراد كل ذلك من خير وشر إرادةً سماها العلماء الإرادة الكونية أي أنه عز وجل أرادها إمضاء لِحِكَمٍ عظيمة منها: الابتلاء الذي جعله الله لازماً لابن آدم وقَرَن الإخبار به بالإخبار بخلقه إياه حين قال: ﴿إِنّا خَلَقنَا الإِنسانَ مِن نُطفَةٍ أَمشاجٍ نَبتَليهِ فَجَعَلناهُ سَميعًا بَصيرًا﴾ ]الإنسان:٢] فكان السياق موحياً بأن الابتلاء وهو الاختبار غايةٌ للخلق، ولا يكون الاختبار إلا بخلق الخير وأسبابه والشر وأسبابه، فالله تعالى أراد الخير والشر من هذا الجانب؛ لكنه يرضى الخير ذاته من عباده ويستحقون عنده الثواب عليه ولا يرضى الشر ذاته ولا يريده من عباده و يستحقون العقاب عليه.

هذا الفهم المُيَسَّر الموافق للنقل والعقل لم تصل إليه عقول المعتزلة، فراحوا يضربون كتاب الله ببعض، فهناك الآيات التي تخبر عن مشيئة الله وإرادته لكل شيء، وهناك الآيات التي تخبر عن تخيير الإنسان، وكونه مختارا لما يريد، فضاقت عقولهم عن إدراك الجمع بين الآيات ، فغلوا في إثبات آيات الاختيار المتعلق بالعبد، وفي مقابله نزعوا إرادة الله ومشيئته! فزعموا أن فعل العبد الشرَّ خارج عن إرادة الله ومشيئته؛ بل يقولون إنه خارج عن خلقه فيزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه وأن الله لا يُقدر على فعل الشر ولا يقضيه(٩) ؛ لكن أين العقل في ادِّعاء أن الله القادر العالم يحصل في ملكه مالا يريده، ويحصل في ملكه وسلطانه ما لا يختاره ولا يخلقه، فهم أرادوا الخروج مما أشكل عليهم في عدل الله تعالى فوقعوا في الشرك حيث أثبتوا للكون خالقين، وفي الحقيقة هذه المسألة كسائر المسائل التي وقعوا في الخطأ فيها لسذاجة عقلية لا لعظمة عقلية! وذلك كما مر بنا في الصفات أنهم نفوها لأنهم توهموا أن الاشتراك في أسماء الصفات بين الخالق والمخلوق يعني تشبيه الخالق بالمخلوق ، فلجؤوا إلى نفي صفات الخالق وجعله معدوما لا صفة له ، اعتداداً بالعقل جعلهم جريئين على الله تعالى فلم يصيبوا عقلاً ولا حفظوا شرعاً ولا عظَّمُوا خالقاً ؛ وكذلك في موضوع القدر ،إنما قالوا بهذا القول لأن التشبيه هو ما أوقعهم في فتنة نفي القدر ،أو نفي القَدْرِ الأعظم في مراتب القَدَر ؛ وبيان ذلك : أنهم لَمَّا رأوا المخلوق يمتنع عليه أن تكون له إرادتان ومشيئتان متعارضتان واردتان على مُراد واحد، توهموا أن الخالق كذلك ، يمتنع عليه ما يمتنع على المخلوق ، فكما يمتنع على الوالد أن يريد ابنه صالحاً وفاجراً في الوقت نفسه،فكذلك يمتنع على الخالق أن يريد من العبد الخير ويكون أيضا مريداً للشر في آن ؛ وهذا ليس من تحكيم العقل عندهم ؛ بل من ضعف العقل ، إذ كيف يُقاس الخالق العظيم المتعال المدبر على المخلوق الضعيف ، ثُمَّ في مذهبهم هذا عدم تفريق بين الإرادة التي تقتضي طلب الأمر ومحبته ،فهذه لا تكون من الله عز وجل إلا للخير ، وبين الإرادة التي بمعنى خلق الشيء وتهيئة أسبابه والابتلاء والاختبار به ،فهذه تكون للخير والشر ، ولا تكون إلا للخالق الحكيم العلي القدير المدبر .

وأرادوا الخروج مما أشكل عليهم في عدل الله تعالى من نحو كيف يريد الله شيئا ويعذب عليه؟ وهو إشكال ألجأهم إليه ضعف عقولهم لا ذكاؤها ، إذُ لم يفهموا التفريق الذي قَدَّمنا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ،فظنوا أنهم بحنكتهم توصلوا إلى الحل بقولهم : إن العبد يخلق فعل نفسه،وعجزت عقولهم التي يعتَدُّون بها عن القدرة على الجمع بين الآيات التي تثبت المشيئة لله والتي تثبت المشيئة للمخلوق.

لكن انظر إلى الحل السلفي للمسألة، فإنهم قسموا الإرادة إلى إرادة كونية وشرعية، وبينوا لزوم المحبة والرضى من الله تعالى للشرعية دون الكونية، وبهذا التقسيم يُسَلِّم العقل،ويطمئن القلب؛ وبغيره يضطرب القلب، ويحار العقل، فتأمل! 

كما أن مسائل القدر برمتها من مسائل الغيب التي ابتلى الله بها عباده والأصل فيها التسليم ؛ لأن عقل الإنسان لا يملك في مسائل الغيب غير التسليم؛ لكن المعتزلة أقحموا العقل فيها كما أقحموه في غيرها فلم يُوَفَّفوا للاستسلام لله تعالى ولا لإصابة مقتضى العقل الصحيح. وإنك إن شئت أن ترى العقل في هذه المسألة فانظر إلى قول الشافعي رحمه الله: “ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا(١٠)، فربط مذهب المعتزلة هذا في القدر بالعلم، وهو من بديع الإلزامات العقلية.

ثم هل تعلم أن مذهب المعتزلة في مرتكب الكبيرة مخالف للعقل والنقل؛ وتلك قضية أخرى يتناقض فيها الحداثيون ومن نهج نهجهم! فإنهم حين يريدون بعث المعتزلة من جديد للتنكيل بالمحدثين والسلفيين ينسون أن عقيدتهم هذه تناقض تماما ما ينادي به الحداثيون والليبراليون من التسامح، وقبول الآخر، بل وعدم تكفير الكافر! ولو كان المعتزلة بمذهبهم الحقيقي موجودين اليوم ،فكيف سيكون موقفهم من هؤلاء الذين يُهَوِّنون من شأن المعاصي ويتوسعون في المباحات حتى إنهم ربما أدخلوا فيها بعض الكبائر!

نعم؛ لأن المعتزلة يحكمون على مرتكب الكبيرة في أحكام الدنيا في منزلة بين الكفر والإيمان فلا يقال له مؤمن ولا يقال له كافر، وأما إن مات فهو في الآخرة في النار خالداً فيها أبدًا وليس بينه وبين الكافر  فرق سوى أنه أخف عذاباً منه؛ ويقول كثير منهم إن الله لا يجوز له أن يرحمه تعالى الله عما يقولون! يقول أبو المظفر الاسفراييني: “ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن حال الفاسق المِلِّي منزلة بين منزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر وإنه إن خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون خالدا مخلدا في النار مع جملة الكفار ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه ولو أنه رحمه وغفر له يخرج من الحكمة وسقط من منزلة الآلهية بغفران الشرك به”(١١)  فأين مكان العقل في هذا المذهب؟

إذ كيف يسوغ عقلاً القول بأن الإيمان كتلة واحدة لا تتجزأ فإما أن يبقى كله أو يذهب كله وكأنه قطعة صخر أو حديد ليس هناك لها خيار ثالث بين أن تكون باقية في المكان أو ذاهبة عنه؛ وكيف يُقِر العقل بأنَّ من وَحَّد الله وصلى وصام وزكى وابتُلِي بكبيرة أن تذهب هذه الكبيرة بكل عمله وإيمانه ويُخَلَّد في النار كما يُخَلَّد الكافرون كيف يستقيم هذا عقلا وهل يرضاه المدافعون عن الاعتزال اليوم لأنفسهم.

وأين من العقل أن يتجرأوا ليوجبوا على الله تعالى أو يقولوا لا يجوز له أن يفعل كذا وهم لا يستطيعون أن يؤجبوا أو يمنعوا ملوك الأرض وكُبَراءها ؛ بل ولا حتى أقرانهم الذين هم عِبَاد أمثالهم فكيف جنحت عقولهم وضلالهم ليتألوا على الله ويوجبوا عليه ويمنعوه حسبنا الله ونعم الوكيل.

أين هذا من مذهب السلف رضي الله عنهم ومنهج أهل السنة وهو أن الإيمان يزيد في القلب وينقص ، وأن كل مسلم مؤمن بما بقي عنده من إيمان يتفاوت الناس في ذلك فيما بينهم وأن من مات وهو عاص فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له وأنه لا يخلد في النا. إلاَّ الكافرون وأن أهل المعاصي يخرجون من النار متى شاء الله ويدخلون الجنة وأن الله لا يوجب عليه أحد شيئاً وكيف ذلك وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر !

وهذه القضايا التي تحدثنا عنها تعتبر عند المعتزلة من أمهات قضاياهم التي تُميزهم وأنت ترى عدم توائمها مع العقل؛ لكن المُحَقِّق للعجب وما يجب أن نقف عنده طويلا هو أن تلك القضايا ضد المنهج الفكري الذي يعتقده أكثر المنادين اليوم بإحياء الاعتزال أو الممجدين للمعتزلة، ومع ذلك يغضون الطرف عنها، ويختارون من أقوالهم نتفًا من هنا وهناك ليعلوا بذلك من شأنهم ويروجوا لهم، فما هو سبب ترويجهم للفكر الاعتزالي؟

الجواب: إنما ذلك لأن المعتزلة لا يقبلون أخبار الآحاد في العقائد أياً كانت مكانة هذا الخبر من حيث القوة، فهذا ما أعجب المستشرقين ومن نحا نحوهم في العمل على هدم الدين بقصد أو بغير قصد . 

وهم يعتقدون أن رد خبر الواحد موافق للعقل بحجة أنه ظني الثبوت والعقائد لا يُقْبَل فيها إلا قطعي الثبوت؛ والحق أن ردَّ خبر الواحد الذي ثبتت صحته مجانب للعقل وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أن رسالة الإسلام كلها بأصولها وفروعها وعقائدها وفقهها جاءتنا بخبر واحدً صلى الله عليه وسلم، ووجب علينا قبولها جملة وتفصيلاً ،فإذا قبلنا الدين بأسره بخبر واحدً تيقنا صدقه فيما أخبر به وجب علينا أن نقبل آحاد المسائل بخبر واحد تيقنا صدقه فيما يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل ذلك من باب أولى.

الثاني:أن التفريق بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة  فيقبل خبر الواحد في الفقه ولا يقبل في العقيدة،  تفريق لا يدل عليه نقل ولا عقل ؛ وذلك لأن مسائل العقائد التي يصبح المرء بالتزامها مسلما وبتركها غير مسلم  وهي أركان الإيمان الستة وما يتعلق بها من توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وختم الرسالة ووجوب الاتباع، وكمال الدين وغيرها كلها ثابتة بالدليل القطعي وهو كتاب الله تعالى وبذلك هي خارجة عن محل النزاع   فتبقى مباحث العقيدة التي ليست أركان الإيمان ولا تتعلق بها فهذه لا يمكن إيجاد فرق مؤثر على مسألة القبول بينها وبين أحكام الفقه ؛ بل كثير من أحكام الفقه كشروط الصلاة وواجباتها ألزم على المسلم من بعض فروع العقيدة كصفات الصراط المستقيم التي لا يقبلها المعتزلة لأنها أخبار آحاد.

الثالث: أن كثيراً من أخبار الآحاد تفيد القطع كأن يروي اثنان حديثا واحداً ونعلم بالضرورة عدم تواطئهما على الكذب لتباعد بلديهما أو لغير ذلك من الأسباب وقد حكم المعتزلة برد أخبار الآحاد جملة دون تفريق.

والأمر. المنافي للمنهج العلمي هو أن المعتزلة يردون خبر الواحد إذا استدل به خصومهم لكنهم يقبلون الاستدلال حتى بالضعيف والموضوع من أخبار الآحاد  لأنفسهم وقد مَثَّل لذلك خالد علال في كتابه “جناية المعتزلة على العقل والنقل”  ومما ذكره استدلال القاضي عبد الجبار على مذهبه في القضاء والقدر بما نسبه لعائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:” الأمر مفروغ منه”  فغضب عليه الصلاة والسلام وقال:” إذا كان مفروغاً منه فلم بعثتُ” والحديث الذي رواه ليس له إسناد ولا يوجد في كتب الحديث ولا التفاسير ولا كتب التراجم ولا غيرها فهو مختلق(١٢) 

إذن فنتيجة هذا المقال: أن عقلانية المعتزلة وهم لا حقيقة له وتمجيد البعض لهم ليس سوى موافقة هوى أو للتعبير عن أحقاد على المنهج السلفي.

——————————————————————

(١) ينظر: ضحى الإسلام (3/ 703- 845)، وظهر الإسلام (4/ 719- 764)

(٢) ضحى الإسلام (3/ 842).-

(٣) الم رجع السابق.

(٤)التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 117)

(٥) شرح الطحاوية – ط الأوقاف السعودية (ص: 28)

(٦) ينظر: ضحى الإسلام (3/ 704)

(٧) ينظر: تاريخ الإسلام ت تدمري (15/ 8) وما بعدها.

(٨) ينظر مثلا: أحمد أمين في ضحى الإسلام (3/ 730).

(٩) ينظر في تقرير ذلك: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار (ص: 323) وما بعدها.

(١٠) شرح الطحاوية – ط الأوقاف السعودية (ص: 247)

(١١) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين (ص: 65)

(١٢)ينظر (ص: 158) ونقل المؤلف هناك عدداً من الأحاديث عن عبدالجبار وحده فكيف بغيره.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.