حوار موقع المحتسب مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد السعيدي (الجزء الثاني)

تكبير الخط تصغير الخط

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

فهذا هو الجزء الثاني والأخير من حوارنا مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي, الدكتور في أصول الفقه بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وقد تطرقنا في هذا الجزء إلى كيفية التعامل مع واقع مليء بالمنكرات، بالإضافة إلى الدور الذي يجب أن يلعبه الدعاة والمحتسبون, وأفضل الأساليب والوسائل التي يقومون بها للتصدي لهذه المنكرات, وعلى رأسها التوجهات الفكرية: من العصرانية, والليبرالية, والعلمانية, والفرق البدعية، والآلة الإعلامية الضخمة الداعمة لهذه التوجهات.. والآن إلى الحوار:

المحتسب: فضيلة الشيخ -وفقكم الله وسدد خطاكم-: واقعنا اليوم يعاني من انتشار المنكرات والبدع والخرافات والتناحرات والصراعات، برأيكم هل يمكن تغيير هذا الواقع؟ وكيف؟

الشيخ: هذا الواقع ليس بالسوء الذي يظهر لي من السؤال، فمن جانب آخر: يمتلئ هذا الواقع بأهل الخير من المصلين المتصدقين الصائمين الحاجين المعتمرين، المحبين للخير, العاملين بالبر، الحريصين على العفاف، وقد وقعت في مجتمعنا عدة مواقف تبين فيها غلبة أهل الخير على أهل الشر, وغلبة أهل السنة على أهل البدعة, وغلبة أهل الاتباع على أهل الخرافة.

المحتسب: إذاً: أين تكمن المشكلة؟

الشيخ: المشكلة تكمن في أن الإعلام بجميع وسائله مقروءًا ومسموعاً ومرئياً وبجميع مصادره الحكومي منها والخاص, والإعلام الشخصي, أي: المُدار عبر الهواتف الذكية, وأجهزة الكمبيوتر، أقول: كل هذا الإعلام يحرص على نقل مواقف السوء فقط, حتى إنها تشيع في التداول بين الناس وكأنها هي التي تمثل المجتمع، وهذا غير صحيح.

أضرب لك أمثلة:

عندما تقبض الهيئة على حالة اختلاء, ويتناقلها الإعلام, فهو بالطبع لا ينقل لك مليون حالة تعفف حدثت في نفس ذلك اليوم.

وعندما ينقل لك حالة مجاهرة بترك الصلاة, فهو لا ينقل لك أعداد ملايين الناس الذين تمتلئ بهم المساجد.

وعندما ينقل لك اكتشاف مصنع خمور, فهو لا ينقل لك عشرات مدارس تحفيظ القرآن, وحِلق العلم.

المحتسب: هل تعني: أننا لسنا بحاجة إلى تغيير الواقع؟

الشيخ: نحن بحاجة إلى تصحيح الواقع, وإصلاح ما فيه من قصور، ومما ينبغي أن نهتم به لإصلاح الواقع عدم إشاعة ما يحدث فيه من منكرات؛ لأن إشاعة المنكرات تؤدي إلى تطبيعها, وهذا ما نهانا الله عنه في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النــور:19].

كما أن إشاعة المنكرات تصيب المصلحين باليأس والقنوط, والشعور بالفشل, وعدم جدوى العمل, وهذا ما يريده أتباع الشيطان.

وربما أدى هذا القنوط إلى فقدان الاتزان في معالجة المشكلات؛ لهذا أرى من الواجب أن نمضي فيما نحن فيه من سبل الدعوة, وإشاعة الخير, فنحن -ولله الحمد- في الطريق الصحيح، وربما توجب على الجهات العاملة في الدعوة نشر إنجازاتها, وما تقدمه من خير, وإقبال الناس عليها, وذلك كي تصحح الصورة التي قد تبدو مُحبِطة للعاملين.

المحتسب: كذلك فضيلة الشيخ هناك مشكلة كبيرة, وهي انتشار ما يسمى بالتوجهات الحداثية والليبرالية والعصرانية.. وغيرها، وأيضا فرق البدع والضلال والخرافة، وساعد على انتشار هذه التوجهات والفرق: وسائل التقنية الحديثة, وتأثيرها المباشر والقوي على الفرد, وخاصة الفضائيات, ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذه لا شك تشكل خطرًا على عقيدة المسلم، برأيكم ما الدور الذي يجب أن يلعبه الدعاة والمحتسبون للتصدي لهذه المشكلة؟

الشيخ: كما قدمت لك هذه التوجهات موجودة وناشطة في الدعوة إلى مسالكها, لكن الصورة ليست بالقتامة التي تبدو لي من خلال السؤال.

ولا أشك أن مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية ونشاط المنحرفين في استخدامها كل ذلك سبب مهم في قتامة الصورة.

وأعتقد أن الصورة القاتمة تتسبب في إحداث أزمات فكرية, مردها الشعور بالعجز, وثمراتها الجنوح إلى التمرد, وافتقادهم القدرة على متابعة الحكماء.

أما من جهة مواقع التواصل ومساهمتها في نشر البدعة, ومذاهب الفكر المنحرف، فهذا حق, لكن ينبغي علينا أن نُحَمِّل أنفسنا المسؤولية أيضًا، فنحن لم نشع بين شبابنا وجوب الامتثال لله, حين نهانا عن مجالسة الذين يسخرون بآياته: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء:140].

فهجر مجالس أهل البدع قاطع لبدعتهم، لكن شبابنا انتهج للتعامل معهم أسلوباً آخر: وهو الدخول في مواقعهم وصفحاتهم الإلكترونية, بل وتكثير سوادهم, ونشر روابط مقالاتهم؛ بحجة التشهير بهم, والحقيقة أنه إشهار لهم أدى إلى شيوع مناقشة أفكارهم في جميع الأوساط, حتى تم تطبيع وجود هذا الفكر, وللأسف تم تطبيعه بأيدي شبابنا.

يجب أن نلوم أنفسنا على هجر شعيرة هجر المبتدع, التي نص القرآن عليها, وجاءت في سنته –صلى الله عليه وسلم-, وطبقها السلف بعده, بل نحن أولى بالعمل بهذه السنة وإشاعتها.

المحتسب: شيخنا الكريم! من وجهة نظركم: هل يحتاج الخطاب الاحتسابي القائم حالياً إلى وسائل تطويرية؛ ليواكب ما استجد في الميدان؟ وما هي؟

الشيخ: أعتقد أن هناك مجهودات فردية ممتازة في تطوير العمل الاحتسابي, تستخدم التقنية الحديثة بجميع أشكالها, ونحن بحاجة إلى عمل مؤسسي يجمع أو يرتب هذه الجهود, ويحرص على سلامتها علمياً وعقدياً, وتتجه في ترتيبها توجهاً حكيماً, وفق رؤية علمية حكيمة, واستراتيجية محكمة آمنة.

المحتسب: ما هو دور المحتسبين تجاه المستجدات في مجال الإعلام؟

الشيخ: يتلخص دورهم فيما يلي:

أولاً: عدم المساهمة في إشاعة سقطات الإعلاميين؛ لأن إشاعتها لا تولد خيراً أبداً، وبعض المحتسبين يتصور أنه بهذه الإشاعة يفضحهم، والحق أنهم لا يرون ذلك فضيحة، ولا يرتدعون من أجله, بل ربما كانت إذاعته ونشره بأيدي المحتسبين مطلباً لأمثال هؤلاء، وضرر إذاعتها عظيم, ولو لم يكن منه إلا تعويد الآذان والقلوب على سماع أمثال تلك الخروقات.

ثانياً: حث العلماء وطلبة العلم الشرعي على معالجة القضايا المشتبهة, والتي يثيرها الإعلام، وذلك بكتابة مقالات تأصيلية حولها, ونشرها بين الناس, وكذلك حث القادرين منهم على الظهور في وسائل الإعلام المختلفة؛ لشرح موقف الشرع من تلك القضايا إجمالاً وتفصيلاً.

ثالثاً: مناصحة القائمين على هذه المنكرات الإعلامية بشرط أن يكون المتقدم بالنصيحة مؤصلاً علمياً, لا سيما في القضايا التي ليس فيها نصوص قطعية, وذلك أنني شهدت بعض النصائح في مثل هذه القضايا ليس مع أصحابها سوى العاطفة المجردة, والحماس للحق, وحين تطرح عليهم الشبهات يأتون بأجوبة تعمق من هذه الشبهات, ولا تزيلها, والمشكلة الأخرى: أن بعضهم يعجبه جوابه, فيقوم بنشره، فيزيد من الخرق اتساعاً.

رابعاً: النشاط في مجال الدعاوى الاحتسابية سواء لدى القضاء أم اللجان الإعلامية، قد نكون غير مرتاحين لإقامة مثل هذه اللجان, لكن لا يعني ذلك: عدم استغلالها ومواجهة المنكرات من خلالها.

خامساً: الكتابة للمسؤولين, وتكثيف الإنكار عبر الإبراق والرسائل لجميع متخذي القرار ومستشاريهم ونوابهم, وهيئة الخبراء, وأعضاء الشورى.

المحتسب: ما هي أفضل الأساليب والوسائل التي يدعو من خلالها المحتسب في ظل الانفتاح الإعلامي في هذا العصر؟

الشيخ: المحتسبون الآن قائمون -ولله الحمد- بأعمال متميزة في مجال الاحتساب, عن طريق استخدام التقنية الحديثة في مجال الاحتساب والتوعية، لكنني أؤكد على ضرورة الحكمة في التعاطي مع هذه الوسائل، وقد قرأت لبعض الفضلاء ما قد يفهم على أنه تقليل من شأن تلمس الحكمة, ومعالجة الأمور بأكبر قدر مستطاع من الهدوء، والذي أراه أن الهدوء قد جُرِّب, والضوضاء قد جُرِّبت, وما كنا نحصل عليه من الخير بالهدوء والرفق أكبر مما صرنا نحصل عليه بالضجيج والضوضاء، ولا يقل أحد: إن الهدوء والرفق لم يعد يجدي, فهذا كلام غير صحيح, بل الذي جُرِّب وبان ضرره هو الضوضاء، وذلك أن إحداثك للضوضاء يوجد الثغرات في حائطك, بل ويجعل مناوئيك يعملون لباطلهم؛ مستغلين أجواء الضجيج التي أحدثتها.

المحتسب: من وجهة نظر الدكتور محمد ما هي أهم القضايا وأخطرها في المجتمع, والتي تحتاج إلى جهود احتسابية كبيرة وتكاتف مجتمعي؟

الشيخ: انصراف أفراد من المجتمع عن الطاعات, وابتعادهم عن التنافس على الخير, وعن الغيرة على المحارم, وعن الزهد في الدنيا وملذات الحياة.

انصرف هؤلاء عن كل ذلك بأشكال متعددة, وإعادتهم إلى الطاعات والزهد والغيرة من أعظم أسباب كفاية الله سبحانه وتعالى لهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:36]، وهذه الكفاية عامة تشمل أمور الدنيا والدين، ومن يسعى لكفاية الله إياه فيحقق الاستعباد له كما يحب عز وجل.

المحتسب: كلمة أخيرة توجهونها لقراء موقع المحتسب؟

الشيخ: أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياهم البر والتقوى, ويصلح نياتنا وأعمالنا, وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

التعليقات

التعليقات مغلقة.