تعليمنا والأنظمة الصلبة

تكبير الخط تصغير الخط
مما يختص به نظام التعليم في المملكة العربية السعودية :أنه نظام شُكِّل وفق ما يُلائم المجتمع وتتوجه إليه إرادته ، لا كما هو معمول به في تعليم الدول العربية التي سبقتنا إلى التعليم النظامي ،أو في الدول الغربية التي كانت عملياً صاحبة القرار في تلك الدول العربية.فَوُلِدَ التعليمُ في بلادنا كما نريد نحن لا كما يراد بِنَا ، في كل شئ . في المناهج ، وفِي نظام التدريس ، ومن ذلك موضوع هذا المقال وهو ما آُسست عليه مدارسنا من الفصل بين الجنسين فصلاً تاماً ؛فمدارس البنين لا تدخل فيها امرأة مطلقاً حتى لو كانت أُمَّاً للطالب أو أختاً كبرى له إلا في حالات من الندرة بحيث لا يمكن ذِكرها فضلاً عن اعتبارها ، فالمدرسون والإداريون والعاملون وكذا من يدخل المدرسة من الزائرين لأي سبب كان كلهم من الرجال ، وكذلك الأمر بالنسبة لمدارس الأناث ليس من حيث اختصاص الإناث بتدريس الإناث من سن السابعة حتى مرحلة الجامعة ؛ بل أيضا من جهة كون مدارس الفتيات وفق النظام الذي انفردت به السعودية عالمياً معسكراتٍ تربوية تعليمية خالصة للنساء من قائدة المدرسة حتى عاملاتها ، لا يدخل عليهم رجل ولو لتفقد حال ابنته، إذ يُمكنه فعل ذلك عن طريق المهاتفة ، أما الحضور إلى المدرسة فهو مهمة الآم ومن يقوم مقامها ؛ وكذلك إصلاح المبنى وتنظيفه لا يقوم به الرجال إلا في حال فراغ المدرسة من النساء .
وقد فَصَّلتُ في هذه الجزئية لأن القراء من خارج السعودية لا يدركون هذا الوضع الذي ليس مشهوداً في أي بلد من بلدان الدنيا ، وهو وضع قد أثبت عملياً جداراته لأن يُسَوَّق كتجربة ناجحة ؛ إذ لم يَحُلْ هذا النظام بين السعودية وبين أن تصل بالرجال والنساء إلى نسبة المائة في المائة من التعلم وتطرد الأمية عن المواطن السعودي إلى غير رجعة بحول الله وقوته، وأنتج هذا التعليم العلماء الشرعيين والأدباء والشعراء والناثرين كما أنتج الأطباء والمهنيين والعسكريين المتفوقين في مجالاتهم من الجنسين ، وذلك في مدة زمنية لم تتجاوز الستين سنة بعدُ ، ولم يَحُل هذا النظام بين بلادنا وبين أن تكون على ما هي عليه الآن من أعلى المراتب في جميع المجالات النافعة للبشرية ؛فجميع السعوديين الذين يقفون بالدولة اليوم في مصاف الدول المتقدمة في كثير من المجالات ، والواعدة في المجالات الأخر ،هم ممن تعلم وفق هذا النظام الفريد.
والانتقال جزئياً أو كلياً من نظام ناجح إلى تجربة نظام آخر في الأصل مسألة لا بأس بها ،إذ من مثاليات الأنظمة أن تكون قابلة للتغيير والتطوير ؛ لكن ذلك يكون إما بسبب فشل النظام القائم فتجب المسارعة لتغييره ، أو لعدم وفائه بالمطلوب منه فتجب المسارعة إلى سد النقص فيه عن طريق الزيادة والتحوير، أو بسبب توقع عدم وفائه بمطاليب المستقبل فحينذاك تجب المسارعة إلى تطويره.
وحين نعرض النظام الفريد في الفصل التام بين الجنسين في التَّعليم العام من أول الابتدائية حتى نهاية الثانوية على هذه الأحوال نجده غير محتاجٍ لأي من هذه الأمور الثلاثة ،فليس في حاجة لا للتغيير ولا للتحوير ولا للتطوير ؛ فهو نظام ناجح تعليمياً وأخلاقياً بدلالة مخرجاته الفاضلة من الشباب والفتيات ؛ وهو كذلك نظام أثبت وفاءه بالحاجات التربوية والأخلاقية التي وُضع لأجلها ،وليس له سلبيات باعتباره نظاماً ، وإن كان البعض قد يأتون بأمثلة على حوادث فردية لكنها لِقِلَّتِها لا تجرح في وفاء النظام بل إن هذه القِلَّة من الحوادث لو تم تحليلها بحيادية فلربما وجدناها غير صحيحة أو أن الأخطاء الناتجة عنها كانت يأسباب خارجة عن نطاق هذا النظام .
وكذلك هو نظام محقِّق لمتطلبات المستقبل ؛ فالواقع العالمي من حيث انحدار الأخلاق وتحلل الإعلام العالمي من القِيَم وانفلات الإعلام الاجتماعي ، وهيمنة الأفكار المتحررة على برامج الأمم المتحدة ،ومؤتمراتها ،ووثائقها واتفاقياتها الخاصة بالمرأة والطفل ؛كل ذلك يدعو إلى وضع أنظمة صلبة فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين ؛ليس في مجال التعليم وحسب ؛ بل في كل المجالات ومنها العمل والإعلام ؛ لأن وضع أنظمة صُلْبَة يحول بقوة دون اختراق مجتمعنا من قِبَل الآلة الدولية العاملة في سبيل الانهيار الأخلاقي للمجتمعات الإنسانية.
فالانهيار الأخلاقي وسقوط الأسرة في الغرب وانتقال الأخلاق والمعايير الاجتماعية والثقافية المُسْقِيَة لها إلى المجتمعات الأخرى ليس أمراً تلقائياً محضاً بل أمر مُخطط له ومدروس ؛ ولهذا فإن صلابة الأنظمة للحيلولة دون تسربه لمجتمعنا أمر في غاية الضرورة .
ونحن نرى المجتمعات من حولنا والتي تَسَاهَل واضعوا الأنظمة فيها بهذه الحقيقة نراها بشكل أو بآخر قد تراجعت بشكل كبير نحو النموذج الغربي المنهار أخلاقياً ، وكلها دون استثناء تُحَاوِل العودة أو على الأقل تدارك ما يمكن تداركه ووضع حد للانحدار ، لكن ذلك يبدو صعباً جداً.
أما نحن فلازلنا قادرين على الاحتفاظ بأنظمتنا الصلبة في التعليم والإعلام والعمل ،وإذا كان من تغيير فلعله يقتصر على طرق تطبيق هذه الأنظمة ، فطرق التطبيق قابلة للتغيير ، أما الأنظمة الصلبة فالحاجة ماسة لاستبقائها لا إلغائها أو السير في طريق ذلك.
في هذا العام طرأت على تعليمنا فكرة إدماج الصفوف الدنيا من التعليم الابتدائي للبنين في مدارس البنات ؛ وفضلاً عن كون الطلب الموجه إلى إدارات المدارس بتطبيقه جاء سابقاً على تهييء المدارس له من حيث بنيتها ومرافقها ،وسابقاً كذلك لتهيئة الهيئة التدريسية لهذا النمط من التعليم بل والأكثر من ذلك سابقاً لوضع أنظمة تعليمية ولوائح نظامية لهذا التغيير ؛ أقول فضلاً عن ذلك فهو تغيير ليس الواقع التعليمي في حاجة إليه مُطلقاً ، والمشكلات التي يُبَرَّر بها لإيجاد هذا التغيير ليست ظواهر بحيث يقال:إن معالجتها في حاجة لهذا التغيير ؛كما أن حلها على افتراض كونها ظواهر عن طريق الدمج هو حل بالاستئصال قبل العلاج .
كما أن المصالح التي يقال :إن فكرة الدمج تأتي بها مصالح موهومة ليست مدعومة بأي واقع تطبيقي ، فالدول التي تطبق هذا الدمج تعاني من مشكلات كبيرة في التعليم قد يكون من أسبابها الدمج بين الجنسين في الصفوف الأول ، وإذا أردنا أن نغير شيئاً من أجل نموذج آخر فيجب أن يكون هذا النموذج الذي نحتذيه ناجحاً وهذا ما ليس موجوداً ؛ فجوانب النجاح في التعليم الغربي يقابلها جوانب فشل فمن أين لنا أن ما نجحوا فيه كان بسبب الدمج وأن فشلهم بسبب أمور أخرى وليس العكس؟
نعم أنا أعلم أن هناك فتوى من بعض العلماء بجواز ذلك إذا تحقق كونه أنفع في تعليم الطلاب وإذا رُوعي في تطبيقه بقاء نظام الفصل في المدارس على قوته .
وأنا هنا لا أنازع في هذا النظام من أصل الشرع بل أنازع فيه من أجل أصل المصلحة التي لم يثبت وجودها والمفسدة التي لم يثبت درؤها بهذا النظام .
عموماً أعتقد أن التعليم في حاجة إلى أشياء كثير لا يختلف عليها أحد لكن ليس منها تغيير أنظمتنا الصلبة التي أعانت بلادنا على مواجهة مشاريع العولمة التي فشل في مواجهتها الجميع.
ولعل خير ما أختم به المقال تحية وزارة التعليم على مناهجنا الدينية التي تم تطويرها حقاً ، ولكنه تطوير في مجال عرض المعلومة واختيار العمر المناسب لتلقيها ، وليس التطوير الذي كان يراهن عليه أعداء بلادنا والذي يعنون به تراجعنا عن ثوابتنا وخصائصنا المرجعية ومنهجنا القويم ، إذ نحن بهذه المناهج حقاً نثبت أن قوة مناهجنا الدينية ورسالتها القويمة لا تتعارض مع بسطها وفق أصول تربوية ومنهجية علمية معاصرة.
د. محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

رد واحد على “تعليمنا والأنظمة الصلبة”

  1. يقول غير معروف:

    جزاك الله خيرا شيخنا الغالي وسدد الله خطاك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.