مع هيئة الترفيه حتى نكون سويا

تكبير الخط تصغير الخط

بصرف النظر عن مدى صحة الإطلاق اللغوي لمسمى الترفيه على هيئةٍ حُكومية تُعنى بإدخال السرور على المواطنين وإقامة المشاريع التي تعتني بذلك ، فإن تهيئةَ سبلٍ متعددة لإدخال البهجة على الناس تتناسب واختلافَ أعمارهم وأذواقِهم وأقاليمهم وأجناسهم وأفكارهم ومداخيلهم المالية ، مهمةٌ مطلوبة بل وحاجِيَّة في زمن ضاقت فيه على كثير من الناس مساكنُهم وأصبحوا يتطلبون المتنفس لهم ولعائلاتهم مع نهاية كل أسبوع يلتقون فيه مع أزواجهم وأبنائهم وقراباتهم ، في معزل من متاعب العمل ومشاغل الحياة وأخبار السياسة والاقتصاد والحروب التي َأصبحت تدخل في جيب كُلٍ منا وإن لم يتطلبها، لترغمه على قراءتها من هاتفه المحمول صباحاً ومساء ؛فساعات الأنس حتى في أصعب الأوقات مهمة لتجديد النشاط وترويح النفوس ورفع العزائم ؛ لا أظن أحداً يخالف في ذلك ، لأن هذه مطالب فِطرية تستوي في الحاجة إليها جميع النفوس ، وإن كانت تختلف في المقدار الذي تحتاجه ونوعه ومكانه وزمانه.
لكن المخططين لهذه المشاريع عليهم واجب عظيم ربما أدى الإخلال به إلى مشكلات يعسر أو يستحيل حلها لاحقاً ، وهو أن يضعوا نَصَب أعينهم كونَ الغاية المبتغاة مما يرسمون له لا تتجاوز أسعاد الناس ، ليكونوا أقدر على عِمَارَة الأرض بما يصلحها ، ويحققُ فيها المقصد الإلهي الأعظم من خلقهم على هذه الأرض ، وهو عبادته سبحانه اختياراً كما هم عِبَاد له اضطراراً ؛ وكل ما سِوى هذه الغاية فليس أكثر من وسائل لتحقيقها ؛ فالكسب الاقتصادي لا ينبغي أن يكون غاية للترفيه ، بل يجب أن يُنْظَرَ إليه كوسيلة من وسائل تنشيطه وتنويعه والرُقِيَ به ؛ لأننا حين نجعل الكسب هو الغاية من الترفيه لا مجرد وسيلة للارتقاء به ، فسوف نصل في النهاية وبلا شك إلى الاعتداء على سعادة الناس تحت مزاعم ترفيههم ؛ وذلك لأن صُنَّاع المشاريع الترفيهية حِينَئِذٍ سوف ينظرون للمجتمع كمنجم يستمدون منه ثراءهم ،ويتنافسون في اجتذابه بكل ما أوتوا من براعة حتى يصل الأمر لأن يكون هَمُّ العباد هو التنافس على استهلاك الخدمات الترفيهية ، وتنقلب حاجتهم الفطرية للراحة والأنس إلى نَهَمٍ خطير على تناول هذه الخدمات المتسارعة في التجدد ، ويصير هَمُّ أحدهم هو كيف يُطفئ هذا الشَّرَه إلى الترفيه الذي سينقلب حتماً إلى غاية يعمل الإنسان طيلة أسبوعه وعامه وشهره لتحقيقها والاستكثار منها ومُنَافَسَة غيره من أقرانه عليها ، بل ومسابقة من هم أكثر منه ثراء وقدرة إلى الجديد والغالي من أصنافها.
كما أن جعل الكسب غاية للترفيه لا وسيلةً للرقي به سوف ينتهي عاجلاً أو آجلاً إلى تجاوز القِيَم والمُثُل العليا والأعراف النبيلة ، شئنا أم أبينا ، أي: وإن زعمنا أننا سنضبط مشاريعنا وخدماتنا الترفيهية بضوابط الشريعة فإننا لن نستطيع الاستقرار على ذلك أو المحافظة على هذا العهد وإن شدَّدْنا في قطعه على أنفسنا وأمتنا ؛ لأن الكسب إذا أصبح غاية ينتهي إليها طَرْفُ الإنسان طَمَس ما دونه كما تطمِسُ الرياحُ الغاباتِ الشاسعة والمدن العامرة شيئاً فشيئاً حتى لا تُبْقي لها أثراً .
كما لا ينبغي أن يكون من أهداف الترفيه تغيير تصورات المجتمع أوأخلاقه وعاداته وأعرافه ؛ فإن إحداث أي تغيير في المفاهيم الجَمْعِيَة للناس أو سلوكهم العام أمر في غاية الدقة والخطورة ؛ وفي حال قناعتنا الافتراضية بحاجة الناس إلى هذا التغيير فيجب أن تكون على أيدي رواد الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي ؛ بل يجب أن تُكَفَّ أيدي غير هؤلاء مجتمعين أو متفرقين عنها ؛ لأن أي تغيير في بِنْيَة الأمم المعرِفِيَّة والقِيَمِيَّة عن طريق الاقتصاد ، أو السياسة أو اللهو والمتعة تكون عواقبه وخيمة وانزلاق بالمجتمعات في مُنحَدَرات يصعب أو يستحيل تداركها .

فأوروبا حين تحررت من قبضة الكهنوت ولم تترك ميدان التغيير للمصلحين بل نَحَّت المصلحين جانباً أو اضطهدتهم ، وأوكلت مهمة التغيير لأساطين الاقتصاد والسياسة سقطت في مجال الأخلاق والأُسرة سقوطاً لا يُتَصَوَّر قدرتها على القيام منه بالرغم من نجاحها في مجالي الاقتصاد والسياسة.
وكذلك بعض دول العالم الإسلامي كتركياالكمالية التي ألجأتها الصدمة الحضارية بعد الحرب العالمية الأولى إلى أن تتقدم في التغيير المعرفي نحو النموذج الغربي ، ولم تترك مهمة التغيير لرواد الإصلاح سقطت في المجال الأخلاقي والأسري والسياسي والاقتصادي معاً ولم تنجح في شئ من ذلك ، وهي الآن تحاول النهوض في المجال الاقتصادي والسياسي كطريق للنهوض في المجال المعرفي والقيمي أيضا.
فالقِيَم والمفاهيم والأعراف والمبادئ والمنطلقات ، أياً ما أسميناها ؛ هي تراث الأمة وملكها الحضاري الذي كَوَّنَتْه على مدى أجيال وأجيال ؛ وهي سريعة الاستجابة لمن يدعوها لإصلاح ما فسد منه وإعادته إلى نقائه كما استجاب أهل الجزيرة العربية للدعوة الإصلاحية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب ، فأذعنت باديةً وحاضرةً ولأول مرة في التاريخ بعد عهد بني أمية للرايات السعودية الخفاقة بهذه الدعوة التجديدية ؛ لكنها -أي الأمة- في المقابل تتعنت وتمتنع بل وتبغض من يدفعها دفعا لمغادرة تراثها أو جزءً منه ؛ حقاً إن الأمم قد تأخُذها لزمن قصير نشوة التغيير تحت جاذبية اللهو والاستمتاع ، أو إغراءات التقدم ، أو تحت طائلة الانهزام الحضاري فتنزلق وراء التغيير القِيَمِي ، لكنها تفيق من تلك النشوة بعد زمن قد يطول وقد يقصر ، وحين إفاقتها تنقِم من باعد بينها وبين تراثها ؛ وعلى ذلك أمثلة كثيرة في التاريخ القديم والمعاصر استغني بثقافة ووعي القارئ عن تعدادها.
ونحن في بلادنا المملكة العربية السعودية ننعم بمنهج إسلامي سلفي أثبت للعالم بأسره أنه قادر على أن يكون أنموذجاً يحتذى حين تريد الدولة والأمة أن تنبعث حداثتُهما من منابتهما، دون الحاجة إلى جذور مستعارة ، أو مياه مجتلبة من بعيد ، فليس بين واقعنا وتراثنا أي خصام ، وإنما الخصام بين أفراد طامحين إلى واقع مستعار لا يلائم سقف تراثنا الأصيل أو أرضيته ؛ وحين يريد المجتمع الترفه ، أو تريد له ذلك دولته ، فلن يكون قطعاً وفق توجه هؤلاء الأفراد الخَصِمِين الذي يرمي إلى جذبه نحو سقف مستعار وأرض هشة بليدة تهوي به في قرار سحيق.
إن لدينا من العقول ومن أدوات الابتكار ، وأيضا من الفسحة في الدين والفقه فيه ما يجعلنا قادرين على اختراع برامج لإسعاد أنفسنا ومجتمعاتنا دون أن نُحدِث خصاماً بين ماضينا وحاضرنا ، وبين أولنا وأخرنا ، ونُبقي على أصولنا وفروعها غضة يانعة مثمرة لا تنبت على طين فاسد ولا تشرب من مياه عَكِرَة.
صحيح أن المملكة العربية السعودية تُمَثِّل اليوم إحدى الدول القلائل إن لم تكن الدولة الوحيدة في العالم بأسره التي بقيت صامدة أكثر من ثمانين عاماً أمام الخضوع الفكري والأخلاقي والقيمي والسياسي لمعطيات الحضارة الغربية في ذلك كله ، وصحيح أيضا أنها تتكلف جراء ذلك أعباء متنوعة ؛ لكن كُلْفتها وأعباءها ستكون أعظم وأخطر لو فرَّطَت في هذه الخصيصة أو لمس العالم منها الاستعداد ولو تدريجياً لذلك التفريط .
د محمد السعيدي

التعليقات

14 رد على “مع هيئة الترفيه حتى نكون سويا”

  1. وزارة الترفيه ترجمة ارامكاوية تبعا لتسمية شركة ارامكو للخدمات التي تقدم لموظفيها بامتدادات متنوعة وليس المهم المسمى فلفت الانتباه بمسميات كهذه ووزارات لهدف محدد بدلا من الهيئات والمحافظين
    أظن نحتاج لتحديد المحتوى من خلال الهدف واستراتيجيات التنفيذ ثم تقييم الهدف وتعديله وصناعة الأهداف واساليب التنفيذ وتقييمها بشكل متكرر دون توقف والله اعلم

  2. السلام عليكم فضيلة الشيخ ورحمة الله وبركاته وبعد
    اتابع ما تكتب من مقالات وكلمات رائعة تنم عن وعي وفم للواقع والاحداث ولما لفضيلتكم من مكانة عند القراء ووالمتابعين تكرما لا امرا ليكنوللاقصى تصيبا فيما تكتب فضيلة الشيخ حفظكمظربي ورعاكم .

    اتمنى ان نزوركم زيارة اخوية تعريفية كالزيارة السابقة حدد الموعد والمكان وانا حاضر في اخر محاضراتي بيت المقصد الى اين؟
    او الاقصى بين الالام والامال
    الدكتور مروح نصار 9/1/2016م

  3. رسالة قيمة وكلام رصين من مرب فاضل .
    ليتنا نتدارك الأمور في بداياتها ولا نسمح للتغريبيين بأن يرسموا لنا خارطة الطريق التي يجب أن نسير عليها. نحن أمة لها قيمها وحضارتها. من المهم الأخذ الجاد بوسائل التقدم العلمي دون التفريط في الثوابت وإلا فسيكون مصيرنا خسارة الدنيا والآخرة.

  4. يقول محمد:

    السلام عليكم بارك الله فيك
    يجب المسؤلين وولاة الامر بهذا الخصوص

  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خير يا شيخنا الفاضل

  6. نعم يادكتور الاهتمام بالقيم الاخلاقيه مبداء عظيم في استرتيجيات التخطيط للترفيه ولن يكون مقبولا مالم يكن النخبه من العلماء قادرين على ترتيب ذلك بطريقه مقبوله لكافه الشرائح بما يتناسب مع المستحبات والقبول بأخف الضررين لاستمرار التوازن فى الحياه الاجتماعيه البسيطه للحياه الناس.

  7. يقول ساري:

    صدقت ياشيخ حتى ان الاخطار التي ستظهر بأبتعادنا عن قيمنا وديننا ستكون بعيدة المدى وعلى شكل دفعات وهذه لايدركها الى العقول ذات البصيره . فأمريكا رغم البهجه والاحتفالات والطرب والترفيه والقبضه الامنيه الاقوى عالميا الا انه يسقط سنويا 32 الف قتيل جرى الاسلحه الناريه فقط!!! غير الانتحار والدهس والاسلحه البيضاء والتحرش والاغتصاب والسطو وترويج المخدرات وتعاطيها وكل هذه الكوارث تغطي الإلتفات لها الاحتفالات الصاخبه والترفيه والرياضه وغيرها حتى اصبحت امورا اعتياديه مع الأسف…..

  8. يقول صالح اليامي:

    السلام عليكم
    د محمد مقالك واقعي وهو يمثل كل ابناء الوطن ، ونصح القائمين على الهيئة واجب شرعي ووطني ، يمكن الهيئة ان تقدم محتوى راقي ينساب جميع اطياف المجتمع بتكلفة أقل مما يقدم حالياً ، تطوير المصايف السعودية بما يجعلها مقصداً لسياح الداخل والخارج ، تنظيم مهرجانات وسباقات رياضية كالراليات والرماية وتسلق الجبال والطيران الشراعي بالتنسيق مع هيئة الرياضة و الكثير من الفعاليات الجيدة .
    من يدير بوصلة الترفيه نريد منه توجيهها فقط لما يريده الشعب وليضل بنفس نشاطه الحالي الذي يشكر عليه

  9. يقول صالح الغامدي:

    السلام عليكم
    جزاك الله خير ..
    فواجب النصيحة من غيور منضبط مدرك لواقع نعيشه وراصد لمستقبل بمستشعرات شرعية يؤتي ثمره بإذن الله .

  10. يقول يوسف:

    جزاك الله خير الجزاء
    ياليت قومي يعلمون

  11. يقول نوار العتيبي:

    السلام عليكم
    لقد وهبك الله قلما سيالا واسلوبا بديعا في الإقناع، يخاطب العقل والمنطق بلا تشدد ولاتعنيف، مبني على البراهين والحجج المستجلبة من التاريخ والواقع .
    أسأل الله أن ينفع العباد بماتقول وتكتب .
    والسلام

  12. يقول عبدالرحمن مسفر عبدالله الحبابي القحطاني:

    تحية طيبه وبهد
    بيض الله وجهك ..تحليل واقعي ومنطقي في زمن كثروا امعات الأعلام وكثر الزبد __ فعلا دكتور انت تمثلنا كمواطنين في تحليلك وتقريرك مبدأ نتمنى ايصاله الى ولاة الامر لأن مانراة من انزلاق خطير في الانقلاب على القيم ينبذة الشعب بأكملة وليس لنا من هالترفية الا ان نسخط منه وحمدنا الله ان تم اقالة الخطيب …ولاكن هل تتغير الاستراتيجيه ويتم الاسترشاد لكتاباتكم وتعليقات الشعب من هاذا الجهاز المنفلت بتجاوزاته الخطيرة على قيمنا …
    اضيف ياشيخنا العزيز …
    لو يتم ايعاز مهام الترفية
    الى الهيئتين المذكورة ويقتصر دور الترفية لادارة التنسيق لبرامج الترفيه

    ١. هيئة الرياضة وذلك للترفيه الرياضي والاجتماعي باانواعه حسب قيمنأ .
    ٢. هيئة الثقافة وذلك ان تقوم بشمول المناشط الثقافية بشتى فنونها باعتدال وحسب قيمنا .
    ويكون _ دور هيئة الترفية هو اداري فقط وتنسيقي .

  13. يقول benameurlaid:

    بإمكاننا الجمع بين الأصالة والمعاصرة ، فديننا ولله الحمد لا يعيق التطور والرقي ، بل هو مصدر العزة والرقي ! فقط يجب على ولاة الأمور أن يضعوا نصب أعينهم هذه المسألة لينالوا خيري الدنيا والآخرة والمنافع الاقتصادية ستأتي تباعا .

  14. يقول غير معروف:

    جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل وبارك فيك وأكثر من أمثالك حفظ الله ديننا و بلادنا من كل سوء وشر وكيد بارك الله فيك أصبت كبد الحقيقة وأوصلت ما يجول في خواطرنا وعبرت عنها أحسن تعبير فأجزل الله اك خير العطاء والمثوبة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.