التوازن الفكري (4/6) “الوحي” الطريق الثاني لإحداث النسبة بين التصورات

تكبير الخط تصغير الخط

د. محمد بن إبراهيم السعيدي:

ذكرنا في المقال السابق أنه من الطرق الصحيحة لإحداث النسبة بين التصورات, العقل, باعتباره المجهود الذهني البشري الصرف, ويأتي ثانيًا بعده: “الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنوعيه”, فهما كما يحتويان على أوامر ونواهٍ إلهية يشتملان أيضًا مجموعة كبيرة جدًّا من التصديقات حسب اصطلاح المناطقة, وهي تقدّم للإنسان ما ينبغي أن يعتنقه من رؤًى يقينية للكون بعالَمَيه: الغيب والشهادة, وذلك بإعطاء أجوبة ربانية لجميع الأسئلة التي لا تزال عند مَن لا يملكون إيمانًا حقيقيًّا بالوحي تعبّر عن مشكلات بل معضلات فلسفية يسميها بعضهم الميتافيزيقا, تتحدث عن كل ما ليس مدركًا ماديًّا, ومنها الأسئلة الخمسة الشهيرة: مَن, وكيف, ومتى, ومن أين, ولماذا, وهي إشكالات عن الخلق وسر الوجود في هذه الحياة, موروثة عن فلاسفة اليونان شكّلت عصب الفلسفة القديمة والوسطى والحديثة, وإن كانت طبيعة النقاش الفلسفي المعتمد على طرح الأسئلة المستنبطة من أسئلة سابقة دون ارتباط السائل بحصوله على جواب مقنع عن السؤال الأول, أقول: إن طبيعة النقاش هذه, قد ساهمت وليست وحدها في أن تكون الفلسفة منطلقًا لكثير من العلوم النظرية والتجريبية كالرياضيات والطب وعلم النفس والجغرافيا والفيزياء والأحياء والميكانيكا, إلا أننا لا يمكن أن نعزو الفضل في ولادة هذه العلوم النافعة إلى الحيرة في أصل الكون والحياة كما يحب البعض أن يصوِّر لنا, بل الحقيقة أن تلك العلوم نشأت عن بيئة علمية مهيَّأة للتفكير, ولو أن تلك البيئة توقفت عند الإجابات الفطرية لإشكالات الكون والحياة لاستطاعت التقدّم بشكل أسرع بكثير في سبيل إنضاج تلك العلوم التي ظلَّت أكثر من ألف سنة متوقفةً عند شكلها النظري الذي تركها عليه كل من أبقراط وأرسطو وأرشميدس حتى انتقلت عند المسلمين نقلةً نوعية من العلم النظري إلى العلم التجريبي، ومن ثَم حقّقت في ظل الحضارة الغربية ما نراه اليوم من تقدّم نتيجة اشتراك العديد من العوامل المؤثرة والتي شكّلت المحرّك الرئيس لتسارعها.

وفي تقديري أن تباطؤ حركة الإبداع العلمي عند المسلمين رغم ابتكارهم للمنهج التجريبي كان من تأثير تعلق فلاسفتهم بالحيرة اليونانية وانشغالهم بمعالجة قضاياها في غفلة غير مبرّرة عن الهدي القرآني في حل تلك الإشكالات, بينما كان لتأثر آباء النهضة الحديثة – ديكارت وكانت – بالإجابات الإسلامية عما وراء الطبيعة دور كبير في تسارع التقدم الأوروبي، بالإضافة إلى عوامل كثيرة أخرى لعلها قد درست من قِبل متخصصين في تاريخ النهضة, وهنا أحب أن أنبه إلى أنني لا أملك معطيات علمية لتأثر ديكارت وكانت بالفكر الإسلامي سوى ما أجده بينهما وبينه من تقارب في بعض مسائل الألوهية ومصادر المعرفة, مع أنني أضع في الاعتبار كثيرًا أن يكون التقارب هو بتأثير من دواعي الفطرة التي أظن أن ديكارت وكانت كانا أول من أدخلاها – أي الفطرة – في الفكر الأوروبي.

أتكلم هكذا لأنني أجزم بأن من التهالك الفكري الرجوع بالعقل إلى الوراء في محاولة مناقشة قضايا محسومة قرآنيًّا بشكل قطعي, وذلك في دعوات نسمعها تتصاعد هنا وهناك مطالِبة بدراسة الفلسفة وتدريسها، بل إن هناك مشاريع قائمة الآن لإحياء الفلسفة في بلادنا, هذه الفلسفة التي قامت بدورها المشكور قبل ألفي عام ولم تعد الآن قادرة على أن تقدم للإنسانية أي شيء مفيد بعد أن استقلت عنها جميع العلوم التجريبية، إضافة إلى علم النفس والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، ولم يبق في فنائها سوى القضايا المتعلقة باللاهوت وعالم الغيب، وهي قضايا يجب علينا التسليم بأنها قد انفصلت عنها منذ ألف وأربعمائة عام حين قدم القرآن أجوبة قاطعة لجميع مشكلاتها.

الوحي أيضًا يقدم منهجا متكاملًا للحياة يؤسسه على حقيقة أن الإنسان عبد لله اضطرارًا ويجب أن يكون عبدًا لله اختيارًا, والاستعباد هنا ليس تحكمًا إلهيًّا في الأفعال فقط, بل في الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي منها الفكر, فالفكر ينبغي أن يكون محدودًا بمساحة ما سكت الشرع عنه, وهذا أيضًا ينبغي ألا يتجاوز الفكر فيه قيود الشرع, فمثلًا حين نتحدث عن الانتماء القبلي, يجب علينا أن نستحضر أن الانتماء إلى القبيلة مباح شرعًا, وهذا قيدٌ ينبغي أن لا نتجاوزه للمطالبة بالقضاء على هذا الانتماء, كما نستحضر أن الانتماء القبلي على أساس من التفاضل في النسب محرم ونستحضر أن الطعن في الأحساب محرَّم وهو قيد آخر فلا يصح استهداف أي قبيلة من القبائل بذكر مثالبها, كما نستحضر أن كل تكتل على أساس يؤدي بالضّرر على النسيج الإسلامي للمجتمع محرم, فلا نطالب بأي تكتلات على أسس قبلية محضة ما لم يكن ذلك لدعم مثل إسلامية, حين نستحضر هذه الضوابط لا يبقى أمامنا إلا المحافظة على القبيلة باعتبارها وسيلة للتواصل الاجتماعي بين أبناء الأمة والقيام مع الفرد من أبنائها في المعونة على نوائب الحق وحسب, وهو نطاق ضيق جدًّا يجرد القبيلة من كل ما من شأنه أن يجعل منها قنبلة موقوتة تفجّر نفسها وتتحطم عليها كل المكاسب, وعليه فلا يقبل أي فكر قبلي لا يسير في نطاق هذا النطاق المحدود لدعم القبلية.

وقد اخترت هذا المثال لاعتقادي أن قليلا جدًّا من القراء سيختلف معي فيه، وإلا فالأمثلة كثيرة في مجالات التعليم والإعلام والتنمية والاقتصاد والخدمات والعمل والسياسة والسياحة والعلاقات الدولية والاجتماع والدعوة والفنون، وكل ما يتفرع عن هذه العناوين بل والبيئة والتصنيع أيضًا, كلها نطاقات شملها الوحي بالضبط والتحديد إما إجمالًا ككل ما يتعلق بالأنظمة, أو تفصيلًا ككل ما يتعلق بالفرد وعلاقته بالخالق والمخلوقين.

وهذا ما أعنيه بالشمول في خطاب الوحي, وهو شمول عرفناه باستقراء نصوص الوحي من الكتاب والسنة, يجعلنا الإيمان به نتحرى أن لا نجتهد في صياغة أي فكرة قبل أن نبحث عن الضوابط الشرعية لها أو للنوع الذي تندرج فيه.

وحين نصل إلى هذه الضوابط فلا مناص من التسليم التام لما ثبت بالشرع؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَه أَجْرُه عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عليهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 112) ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران 31) ويقول عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء 65)، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (النساء 125)، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب 36)، ويقول تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة سُبْحَانَ اللَّه وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص 68).

كما أن حياة الإنسان اليومية مضبوطةٌ بخطاب الشرع طيلة يومه وليلته، حيث لا يخرج عمل من أعماله عن أن يكون له حكم في الشريعة الإسلامية, وهذا ما يجعلنا نعيد النظر فيما يقال: إن الإسلام دين حرية, وأعتقد أن هذه العبارة ليست أصيلة في تراثنا الإسلامي، وإنما جاءت في معرِض الردّ على الحملة العلمانية الماسونية التي جعلت شعارها العدل والحرية والمساواة, فجاء جوابنا: إن الإسلام يكفُل للمسلم حرية منضبطة بضوابط الشرع, لكننا حين نتأمل ضوابط الشرع نجدها والحمد لله كثيرة وكثيرة جدًّا، بحيث لا يمكن إقناع أحد أننا معها يمكن أن نكون أحرارًا.

كنت أتمنى لو كان جوابنا على دعاوى الحرية: أن الحرية في النهاية هي عبادة النفس وتأليه الهوى كما في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفأنْتَ تَكُونُ عليه وَكِيلًا} (الفرقان 43) والإسلام أمرنا بالخروج من ذلك إلى الدخول في عبوديته سبحانه، تلك العبودية التي لا يمكن للإنسان معها أن يكون حرًّا مطلقًا ولا حرًّا بضوابط ولو كانت ضوابط الشريعة, لأن الحرية أيها الإخوة مصطلح له أبعاده الفلسفية، وهو بهذه الأبعاد لا يمكن أن يتوافق مع ضوابط الشريعة إلا من حيث دلالته في لغتنا العربية, ولا يخفى أن المصطلحات غير مرتهنة بدلالتها الأصيلة في لغاتها, وحين نقول: إن الإسلام أعطانا الحرية المنضبطة بضوابط الشرع فإننا نتنازل عن المصطلح الأشرف والأسمى والأكثر تأثيرًا في النفوس، وهو الاستعباد الخالص لله إلى مصطلح ملفق من نتاج الماسونية ومشاعرنا الدينية ونحن نريد مصطلحًا صريحا إسلامي الأصل والمنشأ والولادة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.