التوازن الفكري (5/6) الوحي والحرية

تكبير الخط تصغير الخط

د. محمد بن إبراهيم السعيدي

أطلْت في المقال السابق في شرح مصطلح الحرية؛ لأن حرب المصطلحات اليوم هي من أبشع الحروب الفكرية في عالمنا المعاصر, ولا يمكن أن نخوض هذه الحرب بمصطلحات هي كالخنثى المشكل أو صناعة غربية وتجميع إسلامي, وهذا من مفسدات التوازن الفكري أعني عدم استقلالية المصطلح وخضوعنا فيه إلى ردّات الفعل على المنتجات الغربية.

وحين نرسّخ مفهوم الاستعباد التام لله تعالى فإننا نرسخ أيضًا واجب التسليم لله عز وجل ولأمره ونهيه والرضا بما أمر كتسليمنا بما قسم وقدر.

فالتسليم لله تعالى هو وحده الكفيل بالقضاء على كل مطالبة تخالف النص وتستند إلى ما يعرف بحقوق الإنسان, ويجد المتحمسون لها أصلاً في مقاصد الشريعة العامة, لأن عدم التسليم الحق هو الذي يؤدي إلى محاولة لَيِّ أعناق النصوص أو تعطيلها من أجل موافقة الهوى دون أن يكون هناك داعٍ للتأويل أو التعطيل.

ومن تتمة الحديث عن عظيم الابتلاء بمصطلح الحرية: تطرف البعض في استخدامه؛ ومن ذلك أن منهم من جعله مقصدًا من مقاصد الشريعة ينْضاف إلى حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض, مع أننا لا نجد هذا المصطلح في نصوص الشريعة ولا في اللغة العربية بأسرها يطلق إلا على ما يقابل الرق, والشريعة تحيط الإنسان بأحكامها الخمسة من الوجوب والتحريم والكراهة والندب, وليس ثم خيار مطلق إلا في الإباحة, وحتى هذه نجد أن الخيار فيها غير مطلق؛ فإن المباح الواحد لا يكون مباحًا إلا باعتبارات ربما تكون متعددة؛ فالنساء مباحات للرجل ما عدا المحارم منهن، ولا تتم الإباحة إلا بعقد ومهر، وحين يضم الرجل أربع نسوة تحرم عليه جميع نساء العالمين، وتحرم مع المرأة الواحدة أمها وأخواتها وخالاتها وعماتها.

والأكل كله مباح إلا إذا كان مسكرًا أو مخدرًا أو مفترًا أو غير مذبوح وغير مذكور الاسم عليه وليس سبُعًا أو ذَا نابٍ أو خبيثًا أو خنزيرًا أو دخل في تركيبه شيء من ذلك.

والبيع كله حلال إلا إذا كان بيع مال بمال أو حيلة على بيع المال بالمال أو بيع مجهول أو غائب أو غير مقدور على تسليمه أو غير موصوف بوصف منضبط ولا بيع منابذة ولا ملامسة ولا جلبًا متلقًّى من الركب أو بيع حاضر لبادٍ ولا بيع غرر ولا غبن ولا تدليس ولا بيع نسيئة في الأصناف الستة وما شابهها ولا بيع تلجئة ولا غير تام الملك, إلى آخر ما يُذكر هناك.

نعم، نحن نشعر بكفاية الإسلام وبالراحة في تعاطينا لأمور الحياة وفق تعاليمه، لكن ذلك ليس للحرية بل لما في شرف الاستعباد لله تعالى من الفرج واليسر وصلاح أمر الدنيا بصلاح الدين.

وقل مثلَ ذلك في الفكر؛ فإن المرء مطالب بالنظر إلى الكون والوجود بجملته وتفاصيله وفق الرؤية الإسلامية وبالمنظار الشرعي لا غير.

وممن تطرَّف في الحرية من جاء بهذا الاصطلاح الغربي نفسه فطالب بالليبرالية الإسلامية، والغالب على هؤلاء أنهم غير متحمسين للتسليم للإسلام، وإنما يحاولون ترويج معاناتهم الهوائية، نسبة للهوى لا للهواء، بإضافة الإسلام كتذكَرة عبور إلى مجتمعاتنا لا أكثر من ذلك.

الوحي بنوعية- الكتاب والسنة – نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا كل الناس وكل المؤمنين به، وكما أنهم يؤمنون به إجمالاً وتفصيلاً فإن خطابه تعالى لهم إجمالاً وتفصيلاً، وكما أن كل الأمة مجتمعةً مخاطبةٌ بالوحي فإن كل فرد من أفراد الناس مخاطب على حدة بهذا الوحي, والكل مطالب بتدبره وتأمل أوامره ونواهيه، ليس ذلك لأحد دون أحد، العلماء والعامة على حد سواء’ يقول تعالى: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ”(ص:29)، “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً”(النساء:82)، “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”(محمد:24).

وتدبر القرآن لا يكون صحيحًا إلا بقراءته كاملاً وردِّ بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض، وكذلك السنة لا يكون تدبرها إلا بردِّ بعضها إلى بعض وإلى القرآن.

وعكس ذلك اجتزاءُ بعض آيات القرآن وعزلها عن بقيته أو أخذ بعض الأحاديث وترك تفسيرها بالقرآن أو تفسيرها ببعضها, فإن ذلك من اتِّباع الهوى واتِّباع المتشابه الذي حذر الله تعالى منه: “هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ”(آل عمران 7).

وهذه الآية كما أنها دليل هذه المسألة فإنها أوضح الأمثلة عليها, فهناك من يستدل بها على تفويض علم القرآن لله عز وجل لقوله تعالى “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ”, على اعتبار أن الوقف هنا, ولو قرؤوا القرآن قراءة كاملة وردوا بعضه إلى بعض لعلموا:أن المراد بالتأويل وقوع ما أخبر به الله تعالى، وهو أحد معاني التأويل الواردة في الشرع, وذلك أخذًا من قوله سبحانه وتعالى: “هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ” (الأعراف: 53).

وكما أن كل المؤمنين مطالبون بالتدبر فقد فرّق القرآن بينهم على أساس قدراتهم على استنباط الأحكام منه, فقال تعالى: “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ”(الزمر: 9)، والعلم الذي يتفاوت الناس فيه في استنباط الأحكام هو العلم بطرائق هذا الاستنباط, وهي مجموعة من العلوم مسئولة عن التمييز بين المحكم والمتشابه والمجمل والمبيَّن والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ, وفائدة كل قسم من هذه الأقسام من حيث دلالته على أحكام الشرع, كما أنها مسئولة عن دلالات الألفاظ ومعاني الحروف, ومدى تعلق الأحكام بأسباب النزول, وأسباب ورود الحديث.

فمن الأمور التي يتفاضل فيها الناس في استنباط الأحكام من مصادره: مدى إحاطتهم بهذه العلوم؛ فكلما كانت آلة الإنسان من هذه العلوم أكبر كان أقدر على استنباط الأحكام, ومن لم يحمل هذه الآلة فهو من الذين لا يعلمون، وهم والله أعلم من عَنَاهم سبحانه بقوله: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (سورة النحل: 43-44).

والحقيقة المرة أننا في عصر قلَّ فيه حمَلة هذه الآلات مجتمعة، مما أضعف من قدراتنا على مواجهة الواقع بما يناسبه من أحكام على أساس استنباط الأحكام من الكتاب والسنة, فحتى الكثير من المتخصصين في هذه العلوم -كما نشاهد- لا يَصدرون في إبداء الأحكام عن استفراغ للوُسع في دراستها كما هو المفترض فيهم؛ بل يقعون في أحكامهم تحت تأثير أحد أمرين:

إما ضغط الواقع أو الخوف من الواقع, وهما مؤثران خطيران جدًّا على مكانة ما يصدر عنهم من فتاوى وآراء, حيث يحولان دون النظر إلى النص بروح التجرد إليه والانصياع التام له, مع أن الفريقين مؤمن بحاكميه النص ومرجعيته, لكنهم -أي أفراد الفريقين- يضطرون إما إلى الحكم مباشرة من منطلق ما يحملونه من مشاعر تجاه واقعهم دون البحث عن النصوص, أو إلى اختزال دلالة النص إلى مساحة لا ظلال عليها من ضغط الواقع أو الخوف منه.

والحق في هذا السياق أن يكون التأني في فهم الواقع وتقدير حاجاته تقديرًا صحيحًا بعيدًا عن ضغطه أو الخوف منه هو المرحلة الأولى في إعطاء الحكم فيما يُستجدُّ فيه من مسائل, وهذا الأمر-أي الفهم- وإن كان الكل يدّعيه لكن الشواهد تشير إلى أن الكثير بعيدون عنه, وهذا يُرجعنا إلى ما ذكرناه في صدر هذا اللقاء من اشتراط صحة التصورات ومن ثم صحة التصديقات ويليها صحة الجمع بين هذه التصديقات للوصول إلى المعرفة الصحيحة, وتحدثنا عن بعض وسائل الحصول على كل ذلك, وما نلاحظه في هذه المسألة أن ما أشرنا إليه من وسائل المعرفة الصحيحة لا يُستخدم كثيرًا لدى أكثر القراء والكتاب، مما يؤكد أنهم لم يعُوا حقيقة الواقع، وإن زعموا أنهم في كل ما يقولونه صادرون عن استيعابه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.