رد السعيدي على حوار الأحمري :الديمقراطية لا تمثل البديل الأوحد للاستبداد

تكبير الخط تصغير الخط

د. محمد بن إبراهيم السعيدي / رئيس قسم الدراسات الإسلامية جامعة أم القرى

خلاصة ما أردت الوصول إليه من هذا التعقيب: أن آليات الديمقراطية لا ينكر أحد ما وصل العالم به في ظلها، لكن القطع بجدواها ومثاليتها، وأنها البديل الأوحد للاستبداد أمر من الصعوبة بمكان، ولذلك يجب على المطالبين بالحل الديمقراطي أن يعرضوا وجهة نظرهم على نظرية قابلة للتحقيق والإبطال، وأن مخالفيهم ليسوا جهالا أو مغررا بهم أو دعاة للاستبداد، بل هم أناس لديهم فكر ومعرفة ولهم قراءات وتجارب علمية وسياسية، وأن استخدام الصدمات في سبيل استثارتهم أسلوب لا يليق بالمنهجية العلمية والحراك الفكري الرحب الذي ينادون به.

السجال الجميل الذي جرى بين عدد من الكتاب السعوديين حول فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية، وما مثله هذا الفوز لكل منهم، كان سجالا من نوع الحوارات الفكرية الجادة التي قلما تنتهي إلا وينتقل الفكر معها في بلادنا نقلة تكسبه ثراء ومنعة.

ولم يكن تعدد الانطباعات حول فوز أوباما مما يختص به الكتاب السعوديون بل جرى الخلاف فيه بين الأمريكيين أنفسهم، والأسئلة نفسها التي طرحت هنا طرحت هناك أيضا:

هل فوز أوباما تعبير عن إرادة الأكثرية، أم هو ترسيخ للعنصرية؟

هل فوز أوباما جاء بإرادة الشعب، أم أن الشعب موجه لينتخب أوباما؟

هل نجحت الديمقراطية في تحقيق آمال الأمريكيين؟

فإذا كان أهل الدار وهم أدرى بما يجري حولهم قد تساءلوا واختلفوا، فنحن أولى بأن نتساءل عما تساءلوا عنه ونختلف.

لكن الدكتور محمد الأحمري كان يحظر علينا في مقاله عن انتصار الديمقراطية على الوثنية أن نختلف في هذه المسألة، ويقول واصفا مخالفه: (ولم يزل منا سخفاء وضعفاء وجهلة وملبّس عليهم، وأهل شهادات من الأميين يرون في الحرية والديمقراطية كلمات غريبة وكريهة، وأفكارا غير مفهومة، أو عليها تحفظات وحُجُب ينسجونها من جهلهم لا نهاية لها، أو يرون فيها عزة لا تنال، فيستعيضون عن العزة والحرية والمسؤولية برغد العبودية).

فكل من يخالف الدكتور الأحمري فيما توصل إليه من رأي حول الديمقراطية أو وصول أوباما للسلطة، لا يخرج عن وصف من هذه الأوصاف التي وصف بها مخالفيه.

بل إن هذه الأوصاف يستحقها كل من تسول له نفسه أن يظن أن على الديمقراطية تحفظات، أو أنها فكر غير مفهوم، كذلك قال الأحمري في النص السالف.

ولو أن مخالفي الدكتور وصفوه بإحدى هذه الصفات، لقال إن ذلك ثمرة التخلف والانغلاق المذهبي وضيق الأفق وعدم رحابة الصدر بالرأي المخالف.

وحين نراجع الحوار الذي أجراه ملحق الدين والحياة، نجده يتراجع إلى صفوف مخالفيه في بعض ما انتقدوه به، وبذلك نترك له فرصة اختيار أي هذه الأوصاف يحب أن نطلقه عليه، استمع إليه يقول في أحد أجوبته:

(أما عن عيوبها ـ الديمقراطية ـ فلا يشك عاقل طرفة عين في مصائبها)، ومرة أخرى يقول: (وأوربا لم تزل أقل ولوجا في مصائب الديمقراطية الأمريكية، ولكنها على الدرب). إذا ليست المسألة مسألة تحفظات فقط أو فكر غير واضح، بل هي مجموعة من المصائب الكبرى في أمريكا، ومصائب في أوربا تستعصي على الحل بدليل أن أوربا تسير على الطريق المؤدية إلى المصير السيئ الذي تقع فيه أمريكا اليوم.

هل كان هذا هو رأي الدكتور الأحمري يوم كتب مقاله الأول، أم هو شيء انتهى إليه بفضل ذلك السجال؟

أتصور أن هذا هو رأيه حين كتب المقال وقبله وبعده، فالديمقراطية عنده نظام بشري أثبت تفوقه في كثير من مناحي الحياة العامة والسياسية كما أنه تجربة إنسانية ينبغي عدم الاستهانة بها، ومع ذلك فقد أوقعت الديمقراطية أوربا وأمريكا في مصائب كبرى لا تزال تسير فيها حتى الآن، وليس هو وحده على هذا الرأي بل هو أيضا رأي مخالفيه، فلا أحد منهم يستطيع أن ينكر المحسوس من ثمار الديمقراطية ولكنهم يتكلمون عن المصائب التي أشار إليها الدكتور محمد في الحوار وأغفلها في المقال .

إذا لماذا هذا السجال ؟

جاء هذا السجال في تقديري لأن الدكتور الأحمري مولع بالصدمات كما صرح في حواره مع ملحق الدين والحياة وفي حوارات أخرى سابقة، والصدمة في تعريفه هي أن لا تتبع الطريقة المألوفة في عرض الرأي فتذكر ما توافق فيه خصمك أولا، ثم تأتي بـ”لكن” واسمها وخبرها، بل اذكر ما تخالف فيه خصمك مباشرة لأن ذلك أوقع في النفس وأمكن في محاولة التغيير الفكري.

لكن هل حقا استطاع الدكتور الأحمري أن يحقق الصدمة بهذا المعنى في مقاله؟

الذي ظهر لي أن الأمر لم يكن كذلك في مقاله موضوع النقاش، بل إنه اندفع في محاولة تحقيق ما يعتبره صدمة حتى أبعد عن التحرير العلمي وتحديد موضع النزاع، فظهر للقارئ أنه يتبنى كل شيء في الديمقراطية، ولا يستثني من ذلك شيئا حتى مصائبها الكثيرة التي أقر بها أخيرا في حواره.

واستمع أنموذجا لذلك بعض أقواله: (ومن حظ هذا العالم أن تكون الديمقراطية هي التي تحكمه)، (فهاهو يصنع نظاما يقر حبه ورهبته في كل قلب)، (من الخير للبشرية، أن مثالها، يوم تطورت، كان الديمقراطية، وهل كان يمكن بغيرها أن يتطور المجتمع الإنساني؟ لا يبدو ذلك ممكن)، ( ومن حظ هذا العالم أن الحرية وتقديرها قيمة راسخة في الحكومة الأعلى علينا)، هل يتوافق هذا الثناء المطلق على الديمقراطية والحكومة الأمريكية مع القول إن في الديمقراطية الأمريكية مصائب لم تصل إليها أوربا بعد رغم مصائبها الديمقراطية، بل والأدهى من ذلك أنه يندفع حتى يأتي بقول لا أستطيع أن أفهمه إلا أنه تسويغ للتدخل الأمريكي في شئوننا الداخلية، مع يقيني أن هذا ليس مراد الدكتور، لكنني أنبه إلى مضار الاندفاع بحجة إعطاء الصدمات (ومن حظ هذا العالم أننا نطمح أن نصنع حرية لنا، وأن نطالب المتحررين أن يعاملونا كبشر ويساعدونا على الخلاص من العبودية لأوثاننا والعبودية لهم كأوثان؟)

مجموع هذه العبارات وعبارات أخر وردت في المقالة مع سياقها، لم يكن ليتيح لعربي الوجه واليد واللسان أن يفهم منها إلا أن هذا الرجل ينادي بالديمقراطية على علاتها، ولذلك ردوا عليه ومن حقهم أن يردوا عليه، لأنه رجل مفكر عارف بالغرب لا كمعرفة غيره، فكان من حق القارئ عليه أن يصور التجربة الديمقراطية بعلمية ومهنية وإنصاف، وليس القارئ مطالبا أبدا بأن ينتظر شهرا كاملا حتى يمن عليه الدكتور الأحمري بكلمة مجملة توضح ما قال (لا يشك عاقل أن في الديمقراطية مصائب)، بعد أن كان يجهل ويبدع من يقول إن عليها تحفظات، ولا أعتقد أن مجرد إثارة ضوضاء وصنع خلاف هو مقصود الدكتور الكريم.

ثم من حقي أن أسأل الدكتور وغيره ممن لهم إلمام بمناهج الكتابة والفكر، هل هناك معيار أو توقيت يمكن أن يضبط لنعرف متى يحق للكاتب أن يطرح أفكاره على شكل صدمات؟

الذي يبدو لي: أن الصدمات حسب تعريف الدكتور الأحمري، ليست هي المنهج السليم في الطرح العلمي والدعوي والإصلاحي، بل المنهج السليم هو البحث عن كل ما يقربك من المخالف، لتكون فكرتك أخف وقعا على نفسه وأقرب إلى تناوله ومن وسائل التقارب مع المخالف البدء بالموافقات، وقد علمنا الله هذا المنهج حتى في دعوة المخالفين في العقيدة في مثل قوله تعالى {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} سبأ24، فنجد أنه تعالى علمنا البدء في الحوار معهم ببيان المتفق عليه، وهو المصدر الأصل للرزق من السماء والأرض، ثم ثنى بالتأكيد على التجرد في الطرح عن قصد المغالبة والقهر بالخصومة.

فإذا كانت الصدمة ليست أصلا في طرح الأفكار، فإننا قد نعذر البعض في استخدام هذا الأسلوب للظهور بقضيتهم بقوة، وفرض مناقشتها على أعلى المستويات الممكنة في الرأي العام وبين المفكرين والقيادات، لكن هؤلاء الذين نعذرهم هم من يدعون إلى أمر ثابت بدليل قطعي، أو ينكرون الانصراف عن معلوم من الدين بالضرورة، أما المسائل التي يسوغ فيها الخلاف وليس عليها قطعي من النصوص، فإن عرضها بأسلوب الصدمة نوع من القطع بصحة الرأي ومصادرة الرأي الآخر، وتصغير المخالف وإظهاره بمظهر المفلس الذي لا شئ عنده، بل قد استحق مخالفو الدكتور الأحمري هذه الصفات، حتى لو قالوا عليها تحفظات، فكيف لو قالوا كما قال هو في اللقاء إن فيها مصائب؟

إنني أعتقد أن الدكتور محمد يمارس دكتاتورية في الطرح هي أشد وطأة من دكتاتورية مخالفيه الذين اكتشفنا فيما بعد أنه يتفق معهم، ولشد ما شعرت بخسارة الوقت الذي بذلته في متابعة تلك السجالات حين عرفت من اللقاء الصحفي: أنه لا خلاف كبير بين الطرفين، ولو أن مقال الديمقراطية والوثن تضمن الإشارة إلى واحدة فقط من المصائب التي وقعت فيها أمريكا وأوربا نتيجة الديمقراطية لم يرفع أحد من الكتاب الذين أعرفهم قلمه بالرد على الدكتور الأحمري، لأن الشقة حينئذ لن تكون كبيرة.

ولعلها تكون لي درسا فلا أتابع بعد اليوم سجالا ينشأ حول الدكتور محمد لأنه سينكشف في المستقبل عن مثل هذه النتيجة وبالنسبة لي هذه هي المرة الثانية التي ألاحظ فيها أن الدكتور يقيم السجال العريض، وبعد مدة يصب الماء على النار بمزيد من البيان لوجهة نظره يظهر منه أنه لا يخالف معارضيه، كان ذلك عندما أقام الدنيا بمقاله خدعة التحليل العقدي الذي يظهر جليا من عنوانه أنه ينسف أي تحليل سياسي على أساس عقدي، ثم بعد فترة بين أنه ليس ضد كل التحليلات العقدية ولكنه ضد استبعاد المصلحة والدوافع الأخرى كمادة للتحليل، بذلك انتهى الخلاف بينه وبين خصومه من الناحية التنظيرية وبقي الخلاف في التطبيقات، وهو أخف كثيرا.

ومما أعجب له في هذا الحوار أن الدكتور محمد يصف مخالفيه بالمتسلفة الذين غاب عنهم فقه السيرة وفقه الكتاب والسنة وكأن السيرة والكتاب والسنة لا تحتمل إلا فهما واحدا هو فهم الدكتور محمد وفقه الله الذي يعيب على غيره الدكتاتورية والوصاية والتسلط ويمارسها بصورة أعتقد جازما أنها لا تليق بمثله.

من هو إذا الذي يسر حسوا في ارتغاء إذا لم يكن هو من يرمي غيره بما ابتلاه الله به.

ومن عجائب هذا اللقاء أيضا، أنه ذكرني بلقاء لي مع الدكتور محمد في ندوة عقدها بعنوان الانتخاب أو السرداب، كنت فيها مداخلا ثانويا، وكان الدكتور لطف الله خوجة مداخلا رئيسا، وقد عاب الدكتور الأحمري على مداخلة الدكتور لطف الله، كونه تحدث فيها عن الديمقراطية مع أن ندوته هو إنما هي عن الانتخاب، واليوم أقول للدكتور محمد: لقد وقعت فيما نهيت الدكتور لطف الله عنه، فمقالك موضوع الجدل كان في تمجيد الديمقراطية كما هو عنوانه ومضمونه، أما الفتاوى التي أشرت إليها للمودودي وابن باز والحوالي، فقد كانت في وقائع معينة وخاصة بالانتخاب لا بالنظام الديمقراطي، وخصومك يقولون: إن الديمقراطية تنقسم إلى قسمين: أصول وآليات، أما الأصول فيقطعون بكونها بعيدة عن الشرع، وأعتقد أنك معهم في هذا مع أنك لم تشر إلى ذلك في مقالك جريا على أسلوب الصدمات الدكتاتورية الذي تعمل به، أما الآليات، فالأمر في الخلاف فيها واسع، والناس فيها على ثلاث اتجاهات، منهم من يسوغها على الإطلاق كالدكتور محمد ومنهم من يمنعها على الإطلاق، ومنهم من يجيزها بشروط وضوابط يختلفون في تحديدها ما بين مضيق وموسع، والمانعون مطلقا والمضيقون في الشروط والضوابط يسألون سؤالا مشروعا لم يجدوا أحدا يجيبهم عليه، وهو هل يمكن فصل أصول الديمقراطية عن آلياتها، وكيف يكون ذلك؟

وكنت أظن الدكتور محمد سيجيب عن هذا التساؤل في حواره هذا ولكنه لجأ إلى قتل نفسه حين ضرب المثل بالانتخابات البلدية، أقول قتل نفسه، لأنني أعلم أنه يعلم الفرق بين الانتخابات الرئاسية التي هي محل النقاش والانتخابات الجزئية البلدية، فالقياس مع الفارق، وأيضا فإن الدخول في الانتخابات البلدية جاء بعد أن أصبحت أمرا واقعا ولم يدع أحد ممن يعارضون الدكتور إلى فرضه، كما أن الانتخابات البلدية التي تمت في المملكة قبل سنوات من أبرز الأمثلة التطبيقية على فشل نظام الانتخابات في الوصول إلى رأي الناخب الحقيقي كما أنه فاشل في اختيار الأصلح، أما الأول، فلا يخفى أن الناخبين إنما صوتوا على قوائم وصلت لهم عن طريق الجوال وتواصوا بها لا تذكر لأحد من المدرجين فيها من ميزة سوى أنه ذو لحية، أما كونه كفأ في الرقابة الإدارية ومعروفا بقوة الشخصية، فهذا ما لم تشر إليه تلك القوائم، ومع ذلك طار بها الناخبون الطيبون الذين دفعتهم عواطفهم إلى أن تديرهم رسالة من جوال مجهول، فكيف يرى الدكتور الأحمري هؤلاء هل يؤتمنون على انتخابات رئاسية وتقرير مصير أمة.

لا أعتقد أن هؤلاء الناخبين سيكونون أحسن حالا من القراء المتابعين لهذا السجال حول الديمقراطية حيث وصفهم الدكتور محمد بقوله: (فهؤلاء القرّاء لا يقرأون الفكرة ولكن جوابهم إن ما قال حبيبنا حق، وما قال صاحبكم باطل، منطق جاهلي قديم يلبس لباسا إسلاميا: “كذاب ربيعة خير من صادق مضر” نحن بهذه الطريقة لا نتعامل مع أفكار، ولا مع دين، نتعامل مع تشخيصات حذّر منها مالك بن نبي رحمه الله، وذكر أنها داء فينا وملازمة للضعف الفكري لدى مسلمي زمانه، فها نحن نكتشف أنه بعد كلامه بأربعين عاما لم نبعد كثيراً! وهؤلاء لا يمارسون كلاما يرددونه كل يوم: “الحكمة ضالة المؤمن” لا بل ثقافتهم هي أن من أكد أفكاري فهو مصيب، ومن خالفها فهو مخطئ).

فإذا كان القراء الذين أرهقوا أنفسهم وتابعوا هذا السجال في نظر الدكتور محمد بهذه الغوغائية والإمعية والجاهلية وهم جزء من النخبة المثقفة، فكيف ينادي بالاعتماد على عموم الأمة في تقرير مصير الأمة واختيار قادتها وهم على درجة من الانحطاط لم تستطع أربعون سنة من موت مالك بن نبي أن تغيرها، ولاشك أن ما يوجد في النخب من عيوب يوجد أضعافه في عامة الناس.

هذا مع اعتذاري للإخوة القراء فأنا لا أوافق الدكتور على رأيه فيهم، وأظن أن هذا الرأي الجارح في القراء جاء من منطلق الشعور غير الملحوظ بالوصاية على أفكار القراء الذين يحذرهم من الانسياق وراء فكرة مخالفة، مستخدما أسلوبا أقرب ما يكون إلى أساليب الإرهاب الفكري، حيث حاول تعبئة القراء بشحنات من التخويف من آراء الآخرين تحمل معنى الجاهلية وأتباع مسيلمة.

وكذلك ضرب الدكتور محمد المثل الآخر بانتخابات اتحاد علماء المسلمين، وهو مثال بعيد جدا بل هو في غير محل النزاع، لأن محور الكلام عن الديمقراطية التي من آلياتها انتخاب الأمة لقادتها، أما ما يكون من انتخابات بين النخبة، فلا خلاف عليه عند أحد من المنازعين في الديمقراطية والانتخابات.

ومن هذا النوع ما حصل مما يقال إنه ترشيح لأبي بكر رضي الله عنه يوم السقيفة، فليس هذا من الانتخابات العامة في شيء لأن العامة لم تدع أصلا إلى الانتخاب وكان الرأي للنخبة فقط، وكان الأمر كذلك في انتخاب عمر وعثمان، فالحديث عن عصر الراشدين كنموذج للانتخابات كلام أبعد ما يكون عن موضوع النزاع، وأكرر إن موضوع النزاع هو انتخابات عموم الأمة لا النخب.

ومما أعتقد أنها معضلة في فكر الدكتور محمد: أنه رأى البديل الأوحد للديمقراطية هو الاستبداد، وكل من لا يوافقه على رأيه في الديمقراطية فهو مشرع للاستبداد، وليس هذا التصور ناتجا عن عدم فهم لحقيقة أراء الآخرين كما قد يبدو للبعض، لأن الدكتور محمد من أعرف الناس بتوجهات الناس الفكرية، بل هو جزء من أسلوب الصدمات الذي تعود الدكتور أن يطرح به آراءه، ليوهم القارئ أن الاستبداد المبغض فطريا هو البديل الأوحد لما يطرحه، وبذلك يبتعد الدكتور محمد عن المنهجية العلمية في طرح آرائه والتي من سماتها ـ أي المنهجية ـ إنصاف الآخرين والعدل معهم، ليستبدل بها أسلوب الطرح الانتخابي الذي يعتمد على تجريد الخصم وتصفيته وتحقيق الذات على أشلائه.

وليس المقام من السعة بحيث أبين علاج الاستبداد في الأطروحات التي لا تنادي بالديمقراطية حلا، ولكن أرجو أن يتسع المقام لأوضح للقارئ أن نماذج العدالة والتقدم الحضاري في أنظمة الحكم ليست مرتبطة بالانتخاب وجودا وعدما، فقد يكون النظام المنتخب أشد استبدادا من كل الأنظمة الوراثية وقد يوجد في الأنظمة الوراثية ما هو أعظم عدالة من أفضل النظم الديمقراطية.

فالنظرة المنصفة إلى تاريخ عبدالملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وهشام بن عبدالملك، وهم من أبرز نماذج التغلب على الحكم، تبين أنهم حققوا من التقدم في أنظمة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلالية المالية ونشر الإسلام، ما يعد أنموذجا مشرفا لمن جاء بعدهم.

وضع في مسودتك من الأسماء أمثال الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمر بن عبدالعزيز والمنصور والمهدي والرشيد ومحمود بن سبكتكين وعماد الدين زنكي ويوسف بن تاشفين، ليتضح لك أن الاستبداد ليس رديفا لكل نظام غير ديمقراطي، وأن التاريخ الإسلامي ليس أسودا قاتما كما يصوره الدكتور محمد، الذي لا يجد فيه سوى عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

أما الأنظمة الديمقراطية التي أخرجت للناس عتاة المستبدين، فمنها النظام الفرنسي الذي أخرج نابليون بونابارت والنظام الألماني الذي أخرج هتلر والنظام الإيطالي الذي أخرج موسيليني والنظام الأمريكي الذي أخرج آل بوش، هذا مع الصمت عن الأنظمة التي قامت على أسس انتخابية كجميع رؤساء الاتحاد السوفييتي المنحل، ورؤساء أوربا الشرقية سابقا، أو قامت على أسس ديمقراطية كجميع رؤساء تركيا ودول العالم الثالث.

خلاصة ما أردت الوصول إليه من هذا التعقيب: أن آليات الديمقراطية لا ينكر أحد ما وصل العالم به في ظلها، لكن القطع بجدواها ومثاليتها، وأنها البديل الأوحد للاستبداد أمر من الصعوبة بمكان، ولذلك يجب على المطالبين بالحل الديمقراطي أن يعرضوا وجهة نظرهم على نظرية قابلة للتحقيق والإبطال، وأن مخالفيهم ليسوا جهالا أو مغررا بهم أو دعاة للاستبداد، بل هم أناس لديهم فكر ومعرفة ولهم قراءات وتجارب علمية وسياسية، وأن استخدام الصدمات في سبيل استثارتهم أسلوب لا يليق بالمنهجية العلمية والحراك الفكري الرحب الذي ينادون به.

وأختم تعقيبي برسالة إعجاب بالدكتور محمد بن حامد الأحمري بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياه لكل ما فيه خير وصلاح وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.