رسالة إلى ناشطة في حقوق المرأة وحريتها (٢)

تكبير الخط تصغير الخط

هذه هي رسالتي الثانية إليك والتي وعدت ُ أن أضمنها تصويبا لبعض ما نختلف عليه مفاهيم , وأفضل أن تكون بدايتي منطلقة من توصيات المنتدى الأحد عشر والتي تناقلتها الصحافة الورقية بالكثير من البشر والإكبار .

وأولى هذه الملاحظات أن تلك التوصيات لم تتضمن بيان مفهومكن لتنمية وبالتالي لمشاركة المرأة فيها , والأعجب من ذلك أن مفهوم التنمية لديكن لم توضحه حتى أوراق العمل التي ألقيت في هذا المنتدى .

تصحيح مفهوم التنمية :

مشاركة المرأة في التنمية من أكثر المصطلحات رواجا في خطابكِ وخطاب من يسير على وفق المنهج الذي أنتِ عليه , ولعلك لا تشعرين أنكم تستخدمونه أداة دعائية أكثر من كونه أُمنية تسعون من أجلها وشاهد ذلك ما قدمتُ من غياب مفهوم التنمية عن توصيات المنتدى وأوراقه .

مشتركات :

أمهد لحديثي إليك عن مفهوم التنمية بأمور أعتقد أنها مشتركات بيني وبينك وأنكِ لا تخالفينني فيها , فالتنمية وإن كانت مصطلحا مستوردا من الغرب إلا أنه يقارب في المصطلح القرآني كما يبدوا لي معنى إعمار الأرض , الذي يعد تهييئاً إلهياً لبني الإنسان ,حيث أسكنهم سبحانه في الأرض وسخرها من أجله لهم , قال تعالى : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }هود61, وبما أن كل البشر مستعمرين في الأرض مؤمنهم وكافرهم فقد جعل الله تعالى للمؤمنين خصائص في هذا الاستعمار تخرج به عن كونه تهيئاً فطريا إلى كونه تكليفاً ربانياً وعزيمة إلهية , ومن هذه الخصائص :

1- الإصلاح المستمر في الأرض والبعد عن الإفساد: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }الأعراف56 وذلك إنما يكون ببناء الإنسان السوي المستعبد لله اختيارا بالامتثال المطلق لأمره المتضمن الانكفاف عن مناهيه سبحانه وتعالى , إذ إن البعد عن الامتثال في الحالين مدعاة الفساد قطعا , وهو ما فهمه الملائكة الكرام حين أخبرهم المولى عز وجل باستخلاف آدم في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30وأخبر سبحانه أن معرفة الفساد إنما تكون بمعايير الشرع الحكيم لا بمقاييس الأهواء والعقول , التي قد تزين السوء وتقبح الحسن قال تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } الكهف 103 – 104{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }فاطر8 {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ }محمد14

ومن خصائص الإعمار المشروع أيضا :

2- أن لا يكون مقصودًا لذاته بل لا بد من وجود غاية من هذا الإعمار تربطه بالله عز وجل وطلب ثوابه والحذر من عقابه , فما كان من أنواع الإعمار مقصودا لذاته دون أن يَلحظ فيه القائم به المعنى الأخروي , فإن ذلك مذموم في الإسلام , وهو من الأمور التي عابها المولى عز وجل على قوم عاد , وحكى ذلك لنا على لسان نبيهم هود عليه السلام , قال تعالى : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }الشعراء , أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للأحتياج إليه بل لمجرد اللعب وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك لانه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة, هذا ما قاله ابن كثير في تفسيره للآية ج 3/342 .

3- أن يكون الإعمار لصالح كل مكونات المجتمع فلا تعطى فيه فئةٌ الفرصة لاستغلال فئةٍ أخرى إلا ما كان داخل التسخير الطبيعي الذي جعله الله تعالى وسيلة من وسائل إعمار الأرض كما قال سبحانه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }الزخرف32, ولهذا حارب الإسلام كل وسائل استغلال البشر لبعضهم خارج هذا النطاق الطبيعي , ففرض سبحانه الزكاة والإرث وقسم الفيء , كوسائل تمنع احتجان المال في يد طائفة معينة {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }الحشر7.

4- توزيع المسؤولية في إعمار الأرض على مكونات المجتمع من الرجال والنساء والأطفال فلا يأخذ أحد منهم دور الآخر من حيث الحكم الإجمالي الذي يعتبر الحالات الخاصة ويراعيها , فإذا أخذتِ المرأة دور الرجل أو أخذ الرجل دور المرأة تطرق الخلل للإعمار ودخله الفساد , (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى )آل عمران36 {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }النساء32 (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)النساء 34

وبذلك يمكن أن نجمل معنى التنيمة الصحيحة في تهيئة الأرض لأن تكون مجالا صالحا لعبادة الله بما أباح وما أوجب , فيدخل فيه بناؤها وتزيينها والاتجار فيها والتفتيش عن كنوزها والكشف عن مكنون علومها , كما يدخل فيه إشاعة الأمن فيها من الفتن سواء منها تلك التي تذهب بالأرواح والأموال أم تلك التي تذهب بالدين وبالأخلاق والأعراض..

ما بعد المشتركات :

البيت وتنمية الإنسان :

لن أطيل في تفصيل القول بأننا لا نرفض عمل المرأة خارج بيتها وإنما نرفض أن يكون العمل خارج البيت هو الأصل كما نرفض القول بأن عملها خارج بيتها شرط للتنمية أو لتصحيح مسار التنمية , لكنني سأطيل قليلا في الأسباب التي تدفعنا إلى الإصرار على كون البيت هو المكان الصحيح لعمل المرأة وهو الشرط اللازم إذا أردنا تنمية صحيحة ,وأن ما بعده يعد مباحا عند تيسره للنساء .

فالتنمية في نظرنا تبدأ بالإنسان لأنه هو الآلة الأولى لإعمار الأرض بما لا يعود عليها بالفساد ولابد لذلك من أن يكون هذا الإنسان مَرعِيا في تنشئته من لدن إنسان آخر قادرٍ على أن يغرس فيه قيم الخير بكل ما تتطلبه مهمة الغِراس من رفق وتؤدة وحنو وحب وحدب وعطف ومصابرة ومثابرة وشفقة ودقة ملاحظة ولا تكون هذه الصفات مجتمعة إلا في المرأة بوصفها أما .

ولا يخفى عليكِ وأنت أمٌ أن الأمومة عمل جبار وأن كل عمل تقدمه المرأة خارج بيتها قل أو كثر لا بد أن يكون على حساب مهمتها الأصلية وهي الأمومة .

نعم قد يصح التغاضي عن بعض التقصير في هذا الدور بإسناد بعض المهام إلى من يُعِين المرأة في بعض مهامها لتلبية حاجة طبيعية إلى الاستكثار من المال عن طريق المؤاجرة أو التجارة لكن ذلك ينبغي أن يبقى عملا إضافيا للمرأة تتوقف مشروعيته عند توقف القدرة على التوفيق بينه وبين العمل الأصل الذي هو تنمية الإنسان .

ولهذا فإننا نرفض وبشكل قاطع تسوية المرأة بالرجل في تعريف البطالة , فالمرأة العاملة في إدارة بيتها لا ينبغي أن تصنف في إحصائيات البطالة النسائية لأن عملها في بيتها أكثر حركة وأعظم نفعا من أي عمل آخر تقوم به خارج البيت .

بل إننا حين نُقَوم عمل المرأة في بيتها ماديا فسوف يذهلنا مقدار ما تستحقه من مال لقاء ما تقوم به من مهام , ففي دراسة أجراها مكتب خدمات أدلمان المالية في فيرفاكس في فرجينيا) ونشرتها وكالة رويترز وصلت قيمة عمل الأم مبلغا ضخما إذا تم حساب أجور وظائفها المختلفة من تربية وطبخ وإدارة مالية ودورها في العلاج النفسي للأسرة ,إلى ما يصل إلى 508 ألف دولار سنويا وهي تعمل 24 ساعة.

ومع أننا لسنا بحاجة كي نقدر عمل المرأة في بيتها لمثل هذه الدراسة التي هي نتاج مجتمع آخر بعيد كل البعد عنا إلا أننا نجد أن إظهار المفارقة نافع جدا بين الدراسات الأمريكية التي تنفي وصف البطالة عن المرأة العاملة في بيتها وبين دراساتنا التي لا تزال تصر على معايير غربية رأسمالية ثبت بالتجربة بطلانها .

البيت يقضي على الرأسمالية

لعلكِ أختي حين قرأين الأسطر التالية تحسين معي بحجم الجناية التي ارتكبتها البشرية على نفسها حين أخرجت المرأة من بيتها , لن أتكلم عن الجناية الأخلاقية فذلك باب آخر أيضا بل سأتحدث عن الجناية الاقتصادية , الجناية على التنمية التي تدافعين عنها وتدعين إلى مشاركة المرأة فيها .

فلا يخفاك أن النظام الاقتصادي الرأسمالي أدى بالبشرية إلى كثير من المصائب التي يقدر كثير من الباحثين أنها أعظم بكثير من تلك المصائب التي تؤدي إليها الشيوعية لو طُبقت .

فالأسعار التي لا تتوقف عن الارتفاع , والعملات العالمية التي تضعف قوتها الشرائية كل يوم , والعملات المحلية التي تهوي قيمتها في مقابل العملات الصعبة كل ساعة ,والبطالة التي تزيد ولا تنقص , والفقر الذي يفتك بثلاثة أرباع البشر , وأموال الكرة الأرضية التي تذهب تباعا لتصب في أرصدة فئة محدودة من البشر , كل هذه الأوبئة إنما هي بعض ثمار الاقتصاد الراسمالي الذي نراه يقتحم بلادنا هذه الأيام دون أن نفطن لتبعاته المهلكة .

والجدير بالاهتمام أن بداية سيطرة هذا النظام على المجتمعات جاءت من تنحية البيت عن أن يكون مركزا من مراكز الإنتاج .

ذلك أن البيت كان على مدى آلاف السنين هو مركز الإنتاج الأعظم في كل أنحاء الدنيا , فعليه وحده يقع العبء الأكبر في إنتاج الغذاء واللباس والأثاث بل والدواء أيضاً, وكانت علاقة البيت مباشرة أو شبه مباشرة مع مراكز إنتاج المواد الأولية من الفلاحين والحطابين والملاحين وأيضا مع التجار الذين تقع عليهم مسؤولية جلب ما يحتاجه الناس من منتجات البلاد الأخرى .

كل ذلك أدى إلى أن يكون البيت هو الذي يقرر حاجاته الاستهلاكية لأنه لا ينتج إلا ما يريد أن يستهلكه , كما أنه لا يستهلك إلا ما ينتجه أو ينتجه جاره أو البيت القريب منه , وربما احتاجت البيوت إلى خدمات الصانع أو الحائك لكن ذلك كان في ظروف ضيقة وغير متكررة طيلة العام .

هذه الدائرة الصغيرة في علاقة المُنتِج بالمستهلِك نتج عنها مناخات اقتصادية ممتازة منها تنظيم الاستهلاك وانتظامه , ومنها محدودية الحاجة إلى استخدام العملة كوسيط في عملية الاستهلاك , الأمر الذي يحافظ على استمرار قوتها الشرائية , ومنها انعدام هيمنة القلة على الإنتاج , فالبيوت كلها تنتج معظم ما يحتاجه المجتمع بمواد أولية قريبة المصدر , وهذه الخصيصة انعدمت تقريبا مع هيمنة النظام الرأسمالي على العالم المتحضر حيث ُأبعدت البيوت عن الإنتاج وذلك بخروج المرأة منها , وحل محل البيوت شركات قليلة لم تقتصر مهامها على الإنتاج بل تجاوزته إلى التوزيع أيضا الأمر الذي جعل البيوت مستهلكة فقط لا للمنتجات وحسب بل للخدمات التي أصبحت ذات ثمن بعد أن كانت من متممات المروءة .

مع ابتعاد البيت عن الإنتاج وُجدت المسافة بين المُنتِج والمستهلك , وكثر الوسطاء في هذه العملية التي أصبحت معقدة جدا بعد أن كانت يسيرة وتلقائية , ومع ازدياد الوسطاء ازدادت الأسعار .

كما أصبحت الحاجة بقتل الإنتاج في البيوت حين خرجت المرأة منه ملحة للعملة كي تصبح هي الثمن الوحيد لكل المنتجات , الأمر الذي جعل العملة سلعة في ذاتها تتعرض لكل ما تتعرض له السلع من عوامل العرض والطلب وهذا أحد الأسباب التي جعلت أساطين الاقتصاد يبتكرون عملة جديدة غير الذهب والفضة لا تكتسب قيمتها من مادتها الأصلية كما هو الحال في النقدين , بل تكتسب هذه القيمة من قوة الدولة المنتجة لها ومدى هيمنتها الاقتصادية والعسكرية .

ولم تتوقف المشكلة عند هذا الحد, فحتى العملة الورقية القوية أصبحت تعاني من الندرة نتيجة كونها هي الثمن الوحيد لكل السلع التي يتحكم في إنتاجها شركات محدودة بعد أن كانت تنتج داخل بيوتنا .

المرأة المنتجة داخل البيت كانت هي التي تُملي على المجتمع ثقافته الاستهلاكية وكانت جميع المجتمعات سعيدة بهذه الثقافة الصادرة من بيوتها , فهي ثقافة متوائمة بشكل مطرد ومنعكس مع الحاجات الحقيقية للناس .

وبخروج البيت من مراكز الإنتاج أصبحت المرأة لاهثة وراء الشركات المنتجة التي تجاوز دورها الإنتاج إلى صناعة الثقافة الاستهلاكية للأمم عن طريق تنافس هذه الشركات على التسارع في تنويع المنتجات والدعاية لها وبثها في الأسواق , وهي عوامل رفعت من سقف الحاجيات أو بالأحرى خلعت سقف الحاجيات وأصبح الناس لا حدود لما يريدون , حتى إن ما يحتاجونه لم تعد تفي به مداخليلهم الشهرية .

المشكلة الأكبر أن الشركات التي أخذت مكان المرأة المنتجة في بيتها ليست محلية في عالمنا الإسلامي بل أجنبية تقع وراء البحار بين البيت المستهلك وبينها مالا يقل عن عشرة من الوسطاء وأصبح البيت يتحمل قيمة السلعة مضافا إليها أرباح كل هؤلاء الوسطاء كما يتحمل البيت مصاريف الدعاية لهذا المنتج وتكاليف تسويقه .

وأصبحت هذه الشركات ودولها تهدد سيادة الأمم في أوطانها بحكم كونها المصدر لما يأكلون وما يشربون وما يلبسون وما يركبون , فكل دولة نامية مهددة بأن تُعاقب في غذائها ودوائها حين تخالف الجادة التي تنصبها لها الدول المنتجة لما نأكل وما نشرب .

من الذي وضع الحليب في العلب ؟

لم تغب عني يوما من الأيام صورة الأطفال في العراق أيام الحصار الاقتصادي عليه وهم يحملون علب الحليب الفارغة , وكنت أقول من الذي وضع الحليب في العلب ؟ أليست العراق بلد الفراتين وبلد الأغنام والأبقار والإبل والجواميس ؟ فلماذا تستورد العراق حليبا لأطفالها ؟.

يالها من مظاهرة كان يُقصد بها فضيحة الغرب المتسلط , لكنها والله كانت فضيحة للشرق كله , هذا الشرق الذي أفرغ البيوت من النساء ليبقى فيما يأكله ويشربه مرتهنا لما يريده الغرب منه .

المرأة أهم أم الرجل ؟

حين تكون المرأة منتجة في بيتها فهي أهم من الرجل لأن الإنتاج البيتي لا يستطيعه إلا النساء سواء منه ما كان تكاثريا متمثلا في الحمل والولادة , أو تربويا متمثلا في صياغة الإنسان كي يكون عبدا صالحا أو الإنتاج المادي المتمثل في إعداد ما نأكل وما نلبس .

كل ذلك لا يطيقه إلا المرأة , بل إنها تطيق مضافا إليه الكثير مما يطيقه الرجال من أعمال خارج البيت وتستطيع مزاحمتهم عليها , لكنها حين تفعل ذلك تهوي بالمجتمع إلى المجهول حيث يضل مكانها في البيت شاغرا لا يستطيع أحد أن يملأه بينما مكان الرجل لن يكون شاغرا أبدا .

ما قدمته هو بعض المضار التي حدثت حين تناست المرأة أنها في بيتها هي المنتج وهي المحرك الصحيح لعجلة الاقتصاد المنظم الهادئ , الاقتصاد الذي لا يحارب احتكار الإنتاج كما يحارب احتكار السلع , وهو أيضا الاقتصاد الخالي من داء البطالة وداء التضخم وداء شراهة الاستهلاك .

وهو الاقتصاد الذي يطالب الأمة أن تكون عزيزة لا تخضع في طعامها وشرابها لأهواء أعدائها .

المرأة في بيتها هل تكون عالة ؟

لعلكِ أختي تعيدين لي ما قاله أحد الإخوة عندما ناقشته في هذه الأفكار حيث سأل مستنكرا :ما هذا التسطيح للأمور ؟ هل تريد أن تقنعنا أن كل مشاكل العالم الاقتصادية حلها في عودة المرأة إلى البيت ؟ وهل هذا ممكن ؟ هل يُعقل أن تطلب منا العودة إلى نظام اقتصادي قديم يعتمد على تبادل السلع والإنتاج البيتي المحدود متناسيا ما نحن فيه من تقدم وحياة حضارية سِمَتُها التَرَفُه والحيوية والجمال والنعومة ؟

كل هذه الأسئلة طرحها صاحبي فقلت له : نعم :إن حل مشكلات العالم الاقتصادية يبدأ من عودة المرأة إلى بيتها لا لتكون عالة تأكل وتشرب ولكن لتكون منتجة لطعامنا وشرابنا ولباسنا , ولتكون هي التي تملي علينا حاجاتنا وتنمي أنفسنا وأرواحنا .

ومالنا لا نعود إلى هذا العصر الذي كانت المرأة فيه هي محركة الاقتصاد ومصدر الإنتاج وهو عصر لا يبعد عن بلادنا إلا سنوات معدودات , أليس لنا في الغرب عبرة وقد عادوا إلى النظام الديمقراطي من تاريخهم السحيق وهو يبعد عنهم أربعة آلاف عام .

ألسنا أولى بالعودة إلى ما ضينا القريب منهم حين عادوا لماضيهم البعيد ؟

عودة إلى المشتركات

بعد هذا العرض لمفهومنا عن مشاركة المرأة في التنمية أسألك : أي المفهومين ترينه أقرب إلى ما قدرتُ أنه مشتركات بيننا ؟

هل هو مفهومي الذي يريد العودة بالبيت إلى مراكز الإنتاج كي يتخلص المجتمع من آفات الرأسمالية , أم هو مفهومك الذي يدعو إلى إفراغ البيوت من النساء ومشاركتهن الرجال فيما أوكله الله إليهم من الضرب في الأرض لتصبح البيوت مراكز استهلاك وحسب وينحصر الإنتاج في يد القلة القليلة ليكون المال دولة بين الأغنياء ؟

هل هو مفهومنا الذي يعتني بالهدف والغاية , أم هو مفهومك الذي يعتني بالظهور والبهرجة والتمرد على الواقع ؟

هل هو مفهومنا الذي يعتني بمصلحة جميع فئات المجتمع أم مفهومك الذي يعتني بالطبقة الرأسمالية ويسعى لأن يفرغ البيوت من النساء ليبقى الجميع مستهلكا خادما لهذه الفئة التي تعودت أن تبيعنا وتشتري من غيرنا ؟

هل هو مفهومنا الذي يوزع المسؤوليات على أفراد المجتمع ليعمل كل فيما خلقه الله له أم هو مفهومكِ الذي يسعى لأن تحل النساء محل الرجال فيما يعجز الرجال أن يأخذوا مكان النساء .

آمل مراجعة نفسكِ ومحاسبتها قبل أن تحاسبي

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.