هل السُّنَّة وحي؟

تكبير الخط تصغير الخط

هل السُّنَّة وحي؟

السنة النبوية ليست وحياً من الله تعالى ولو كانت وحياً وأهملها الصحابة والمسلمون لكان هذا لا يليق بالوحي ، وما ورد في سورة النجم في قوله تعالى {وما ينطق عن الهوى}  إنما المراد به القرآن .

هذه إحدى الشبهات  مما بدأ يطفح على السطح من انحرافات فكرية لدى مثقفين عرب بدأ أثرهم اليوم يظهر في بعض مثقفي بلادنا ، وليست إلا إعادة صياغة لِمَا سبق وقاله مستشرقون في ثنايا حملتهم على السنة النبوية أوائل القرن الماضي ، وَرَدَّ عليهم علماء بكتب ومقالات ، كان من أجمعها كتاب حجية السنة للشيخ عبدالغني عبد الخالق رحمه الله[ت١٤٠٣]، وكتاب السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب حفظه الله ، وقد اجتمع في هذين الكتابين الكثير من العلم ،وكذلك فيما سواهما من كتب الانتصار للسنة، والمستشرقون هم أيضا لا يعدو ما قاموا به إحياءً لشبهات الباطنية والفلاسفة والمعتزلة التي اندثر تداولها بعد القرن الرابع الهجري وظلت محصورة في النطاق الضيق لأصحابها ؛ وأكثر من يعيدون أقوالهم اليوم ويدًّعون التعالم .لا يقرأون تلك الردود العلمية التي لا يسع المنصف سوى التسليم لها .

أقول هذا لأؤكد أن وصف السنة بكونها وحياً ،هو مما اتفق عليه جميع المنتسبين للسنة وقبلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان .

وكلهم في ذلك تبع لكتاب الله تعالى ولِمَا صح عن رسوله ، حيث أثبت الكتاب والسنة أن السنة وحي من الله تعالى ورسول الله مبلغ فيها عن ربه أو مُؤيَد بإقراره تعالى لنبيه ، فكلا الأمرين وحي من الله ، وأما مالم يُقِرُّه الله تعالى عليه ، فهذا قليل محصور ، بَيَّنَه الله لنا في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. 

فمن الأدلة من كتاب الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَم تَكُن تَعلَمُ وَكانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظيمًا﴾ [النساء: ١١٣] فالحكمة في الآية :القضاء بالوحي كما يقول القرطبي والبغوي، ويقول ابن كثير هي السُّنَّة؛ وتعليمه سبحانه مالم يكن يعلم ،هي الشرائع والأحكام ، وقال ابن عاشور: هي مازاد على الكتاب من الوحي ؛إذن فهذه الآية قاطعة في أن السنة وحي ، وإنما قد ينازع منازع في كون السنة هي الحكمة وهو محجوج بأقوال المفسرين ، كما أنه محجوج بالآيات التي فَسَّرت الحكمة كقوله تعالى : ﴿رَبَّنا وَابعَث فيهِم رَسولًا مِنهُم يَتلو عَلَيهِم آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] وذكر الطبري أن للعلماء في تفسير الحكمة ثلاثة أقوال: السنة والفقه في الدين والعقل في الدين؛ وكل هذه المعاني راجعة إلى السنة لأنها هي الفقه في الدين وهي العقل فيه ، ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى ﴿وَاذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٤]فلم يكن يُتلى في بيوت أزواج رسول الله غير القرآن سوى سنته ، ولم يختلف المفسرون في ذلك ، ويمكن النظر في تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير .

وكذلك قوله ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾ [النحل: ٤٤] فالذكر هنا القرآن عند الطبري والوحي عند البغوي ، ولا اختلاف بين القولين ، فالقرآن ذِكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، والسُّنَّة ذكر الله الذي هو بيان القرآن ، ولا معنى لأن نقول : إن القرآن وحي وأن  بيانه الذي هو جمهور الرسالة النبوية ليس وحياً إلا اتهامنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتشريع بهواه وليس بأمر الله ، وليس من المُدْرَك عقلاً أن يكون المُبَيَّن من الله تعالى والبيان الذي هو معظم الرسالة من غيره ، وإلَّا لم يكن ثَمَّ معنى لوصفه رسولاً ؛ ولذلك أخبر عز وجل في أية أخرى: أن هذا البيان وإن كان على لسان رسوله إلَّا أنه من الله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَينا بَيانَهُ﴾ [القيامة: ١٩] قال ابن عباس رضي الله عنه كما رواه الطبري  {علينا بيانه} أي تبيانه بلسانك .

ومن أدلة القرآن:الآيات التي أمرت المؤمنين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف عند حكمه ، وقَرنت طاعته وحكمه بطاعة الله وحكمه ، كقوله تعالى: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسولَ فَقَد أَطاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلّى فَما أَرسَلناكَ عَلَيهِم حَفيظًا﴾ [النساء: ٨٠]ولا معنى لهذه الآية تتيحه اللغة على الحقيقة إلا أن تكون السنة وحياً من الله تعالى ، وأما من فهم غير ذلك وتذرع بدلالة المجاز ، فعلى التسليم بمجازيته جدلاً ، فأقل أحوال المجاز الدلالة على أن السنة حجة بإقرار الله تعالى رسولَه ، وإذا ثبتت حجية السُّنة فلا معنى للتفريق بين ما هو وحي وما ليس كذلك ؛ وإن زعموا المجاز في هذه الآية فمن لهم بالمجاز في مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِن تُطيعوهُ تَهتَدوا وَما عَلَى الرَّسولِ إِلَّا البَلاغُ المُبينُ﴾ [النور: ٥٤] فقد نصَّت الآية على أن الهدى ثمرةَ الطاعة ، وأن ما يُطَاعُ فيه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه إلا مبلِّغاً ، ولا معنى للوحي إلا ذلك . 

هذا قليل من كثير من الأدلة التي ذكرها أهل العلم للدلالة على كون السنة وحياً ، وقد. ذكروا أدلة من السنة نفسها التي إن لم تبلغ حد التواتر فهي ولاشك تبلغ حد المستفيض الذي يفيد العلم بتعدد القرائن ، كما استدلوا على ذلك بالإجماع وبأدلة عقلية تبين لك كثرتُها وتضافرها سبب الإجماع التام على كون السنة وحيا وعلى الاحتجاج بها.

 ثم تأتي مسألتان :

الأولى : قد ذكر أهل الأصول :أن السنة ظنية الثبوت ، فكيف يُتَعَبَّد الله تعالى بالظني ، وكيف يكون الثابت لنا بطريق ظنية موحى به من الله تعالى ؟

وخلاصة جواب هذا الإشكال أن نُبَيِّن أولاً أن معنى الظن في مصطلح الأصوليين مقابل الوهم أي أن عدم ثبوته وهم ، والوهم هو الاحتمال المرجوح الذي لا سند ولا دليل معتبرين له ، وإنما يوصف بالظنية كوصف منطقي وحسب.

ثم نُبين أن وصف خبر الواحد بإفادة الظن إنما هو في الترتيب المنطقي لخبر الواحد العدل جملة ، أي سواء أكان من السنة أو أيام العرب أو ما يُخبر به الناس عن بعضهم ، فكل أخبار العدول ظنية الثبوت ، وأما بخصوص السنة النبوية ، فإن أخبار الآحاد إذا اتفق المحدثون على صحتها فهي تفيد العلم ، أي القطع ، وهذا ما يُعَبِّر عنه الأصوليون بقولهم “خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد العلم ” فأخبار الأحاد التي اتفق العلماء على صحتها قد احتفت بها القرائن التي تجعلها قطعية الثبوت ، كتعدد رواتها مع اتفاق معانيها وتقارب ألفاظها على حال يمتنع فيها تواطؤهم على الكذب كما ذكر ابن حزم إنه يستحيل أن يتواطأ اثنان في قطرين مختلفين على انتحال بيت من الشعر فكيف يمكن تواطؤهما في انتحال حديث عن رسول الله لاسيما وهما من أهل العدالة ، وغير ذلك من القرائن التي تحتف بالحديث الواحد ويضيق المقال عن استقصائها  .

المسألة الثانية : لماذا تأخر تدوين السُّنَّة إلى نهاية القرن الأول ؟ ولو كانت السُّنَّة وحياً لما أخَّر الصحابة جمعها وكتابتها !

وهنا نبدأ أولاً ببيان خطأ الكثيرين في فهمهم أن المراد بالتدوين في عهد عمر بن عبد العزيز مطلق كتابة الأحاديث  لآن كثيراً من الأحاديث كانت مكتوبة ، وإن كان المُعَوَّل على الرواية ، ثم كتب من يحسن الكتابة من التابعين ما يرويه عن الصحابة ، أما التدوين الذي أمر به عمر بن عبد العزيز فهو جَمْعُ ما كان في مدينة رسول الله من الحديث المكتوب والمحفوظ .

ثُمَّ إن هذا الاعتراض قد يكون صحيحاً لو أن الذي تأخر حتى نهاية القرن الأول هو الرواية وليس التدوين ، وذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث وكذلك تابعيهم لم يكن يكتب منهم إلا القليل ، وهذا القليل أكثرهم لا يتقنون ،ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”نحن أمة أُمِّيَة لا نكتب ولا نحسب”  فكانت الأمة أمة رواية ، وكانت السنة منتشرة انتشاراً عظيماً قبل أن تُدَوَّن ، وكثر علماء الحديث في المدينة ومكة والكوفة والبصرة ودمشق والفسطاط وصنعاء قبل أن تُدون السنة ، ولم تكن الأحاديث طويلة حتى يعسر حفظها على أمة كانت الرواية موهبتهَا الأولى ، ولهذا كان من علامات ضعف الحديث عند العلماء طولُه ،إذ لا يكاد يسلم من الضعف في الأحاديث الطوال إلَّا القليل.

والتدوين لم تكن فائدته الكبرى حفظ الحديث إذ كان الحديث متداولاً في الأمة بشكل كبير وكانت الركبان تذهب به وتأتي ، وإنما كان أعظمَ فوائد التدوين حفظُ الأسانيد ، إذ نشطت بعده حركة تنقية السنة من روايات الضعفاء وضم الأسانيد بعضها إلى بعض حتى جاءت المدونات الكبرى من مصنفات ومسانيد وصِحَاح وغيرها .

وبهذا تنقطع شبهة أن السنة لو كانت وحياً لما تأخر تدوينها .

والحاصل أن الحملة اليوم على السنة ليس المراد بها ما يزعمون من التجديد والتنقية بل يراد بها إسقاط الأمة وتقزيمها تحت خرافات التنوير والعقلانية والتجديد والإصلاح .

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.