جواب استشكال حول القاعدة

تكبير الخط تصغير الخط

في الأسبوع الماضي نشرتُ مقالتي في هذه الصحيفة “الوطن” تحت عنوان: ماذا فعل داعش، وقد ورد عليه استدراك من عدد من الإخوة ملخصه: أن المقال أغفل حقيقة أن “القاعدة” بذلت تضحيات لا يمكن تجاهلها في مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق، وهذا أمر يُحسب لها وليس من الإنصاف إغفال الحديث عنه. انتهت خلاصة الاستدراك.
وأبدأ إجابتي بضرورة التنبه إلى أن الحروب المخابراتية في العالم تأخذ طابعا بعيدا عن العلاقات الخارجية الظاهرة بين الدول، فقد تكون الدولتان في وئام ظاهري وعلاقات دبلوماسية متميزة، ومع هذا بينهما حرب مخابراتية شرسة، تختلف مسبباتها وبواعثها وأساليبها من حالة إلى أخرى، وقد تكون الدولتان على خصومة شديدة، وربما حرب، وتجد بين أجهزة المخابرات التابعة لهما تعاونا في بعض الملفات.
وأيضا قد تكون دولة ما على عداء تام مع تنظيم ما لكنها تسعى في استثمار هذا التنظيم في خدمة بعض تطلعاتها، فتراها من جانب تعاديه وتسعى إلى القضاء عليه، ومن جانب آخر تعمل على توجيه بعض تحركاته والاستفادة منها، عن طريق اختراق هذا التنظيم أو الحركة وزرع عملائها في نقاط اتخاذ القرار فيها. الأصعب من ذلك أن بعض أجهزة المخابرات قد تصنع الحركات أو التنظيمات المعادية لها كي توظفها في بعض أهدافها.
قراءة الأزمات التي تعصف في أي بقعة من العالم دون استحضار ما تقدّم ذكره من تلبيس العمل المخابراتي لن تكون قطعا قراءة صحيحة، بل ستكون قطعا قراءة ضارة. وقراءة كثيرين من أبناء العالم الإسلامي لحركات العنف المسلح في الدول الإسلامية بعيدا عن هذه الحقائق، بل باستحضار حسن الظن فقط بكل من يرفع شعار الجهاد أدى إلى الاغترار بهذه الجماعات، مما فاقم ضررها على الأمة جمعاء وما زال حتى يومنا هذا. وسوف أطبق شيئا من ذلك على القاعدة وداعش في العراق والشام، فالزرقاوي ومن بعده البغدادي كانا حقا أعداء للأميركيين، لكن قتالهم لهم في السنوات الأول كان محدودا، ولا أعني أنه غير موجود، بلى هو موجود، لكنّ النكاية الحقيقية والقوية بالأميركان كانت من قبل المقاومة العراقية الوطنية بمختلف فصائلها، وأشهرها كتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي، وكان الإعلام الأميركي والعربي عمدا يسرق تلك الإنجازات وينسبها للقاعدة، بالضبط كما يحدث اليوم حين تحقق الفصائل السورية بعض الانتصارات وتنسب للنصرة ولداعش بأساليب إعلامية قذرة.
بل كانت الكثير من هجمات القاعدة على الأميركان من داخل مدن وأحياء السنة، الأمر الذي كان سببا في دخول الأميركان في معادلة تصفية أهل السنة وتشريدهم وتفكيك تجمعاتهم السكانية، فشن الأميركيون حربا شعواء على التجمعات السُّنِّية المدنية التي كان رجال القاعدة ينطلقون منها، كما حصل في الفلوجة ، حيث قامت القاعدة بقتال الأميركان بشكل غير موفق من داخلها ثم انسحبت بعد أن أججت الأهالي وتركتهم لمصيرهم مع الأميركان وحدث ما حدث في الفلوجة من مآسٍ. أما المقاومة السنية في العراق فقد كانت القاعدة بقيادة الزرقاوي ومن بعده البغدادي تستهدف قادتها وعلماءها بالاغتيال، وتخوض ضدها عددا من الحروب، وذلك بذرائع شتى منها: التعامل مع الصليبيين أو المرتدين، فأي اتهام بعلاقة ما بمن يعتبره الزرقاوي مرتدا كفيل بأن يُلحَق الاستئصال بهذا المتهم مهما عظم قدره واستمع إليه يقول: [نُحَذِّر العشائر بأن كل عشيرة أو حزب أو جمعية يثبت تورطها وعمالتها للصليبيين وأذنابهم من المرتدين فوالذي بعث محمدا بالحق لنقصدنهم كما نقصد الصليبيين ولنستأصلن شأفتهم ولنفرقن جمعهم] الجامع لخطابات الزرقاوي 378، فهو يتوعد باستئصال الشأفة أي محو هذا المتعاون مع من يعتبرهم مرتدين من الوجود بالكلية.
وتارة يقاتلونهم بذريعة عمالتهم للمملكة، فالسعودية في نظرهم دولة مرتدة وتعاون أي فصيل معها يُعَد نكسة للعراق بزعمهم، وقد قال أيمن الظواهري في سياق تبريره لما تفعله دولة العراق المزعومة بأهل السنة هناك، وقتالها لكتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي سنة 1427: (لو سيطر عملاء السعودية على الحكم في العراق أو على مناطق أهل السنة فسيتعرض العراقيون حينئذ للقهر والإذلال وسيباع العراق بأكمله إلى أميركا)، لاحظ أن الوقت الذي قال فيه الظواهري هذا الكلام كانت فيه ميليشيات جيش المهدي تسيطر على معظم بغداد وتفعل الأفاعيل في تهجير أهل السنة وقتلهم، وكان الأجدر بالظواهري لو كان نزيها أن يدعو إلى توافق أهل السنة ضد المشروع الطائفي الشيعي ويأمر القاعدة بتأجيل مشروعها الخاص إلى حين القضاء على العدو المشترك، أميركا وإيران، لكن هيهات، فمشروع القاعدة الهيمنة على أهل السنة كان هو الأولوية لديها، كما أنه الأفضل في خدمة المشروع الإيراني.
يؤكد ذلك عطية الله الليبي أحد كبار منظري القاعدة فيقول: (ولهذا نلاحظ عند بعض الناس تضخيما كبيرا للخطر الرافضي -وأي والله إنه لخطر عظيم- لكني أشعر أن هناك مبالغة بالفعل عند بعض الناس في تصوير هذا الخطر وتصوير أولويته). إذاً ليست الأولوية لردع جيش المهدي عن قتل السنة، بل لقمع السنة باعتبارهم عملاء السعودية أو باعتبارهم مرتدين، بل إن قتال عملاء الحكام العرب ليس أولى من قتال عملاء إيران وحسب، بل هو أولى من قتال الأميركان المحتلين للعراق، وفي ذلك يقول البغدادي أمير دولة العراق المزعومة: (إننا نرى كفر وردة جميع حكام تلك الدول وجيوشها وقتالهم أوجب من قتال المحتل الصليبي). وقد عملت القاعدة في العراق بهذه الفتوى التي صرح بها البغدادي من قبل أن يتولى أمر الدولة المزعومة، فقد تبنت القاعدة في العراق إعدام السفير المصري إيهاب صلاح الدين الشريف والدبلوماسيين الجزائريين علي بالعروسي وعز الدين بالقاضي سنة 1425 مع أن الجيش الإسلامي حين وثق بهم وسلمهم القنصل الإيراني فريدون جيلاني قاموا بإطلاق سراحه، فبأي حجة يقتلون دبلوماسيي الدول السنية ويفرجون عن القنصل الإيراني؟! وقد حاول بعض القاعديين آنذاك إيجاد تبريرات لهذا التناقض لكنها كانت كلها سقيمة للغاية. الشاهد من ذلك أن أكثر جهود القاعدة كانت موجهة نحو الشيعة العرب ونحو المقاومة السنية.
وقد كان هدف القاعدة من قتل الشيعة العرب هو تهييجهم وإيجاد المبرر لهم كي يقاتلوا أهل السنة ومن ثُمَّ يقوم أهل السنة بقتالهم، وقد يستبعد أحد القرّاء هذه الاستراتيجية المُضحكة ويظن أنها من تحامل أعداء القاعدة عليها، لكن ليستمع إلى تصريح الزرقاوي نفسه بهذا الأمر، قال في رسالته لابن لادن (الرافضة، وهؤلاء في رأينا مفتاح التغيير، أقصد أن استهدافهم وضربهم في العمق الديني والسياسي والعسكري سيستفزهم ليُظهِروا كَلَبَهُم على أهل السنة ويكسروا عن أنياب الحقد الباطني الذي يعتمل في صدورهم، وإذا نجحنا أمكن إيقاظ أهل السنة الغافلين). الجامع لخطب الزرقاوي 70 – 71. وهذا الكلام في غاية الوضوح. المهم أن الأمر انتهى بسقوط المقاومة السنية الوطنية العراقية على يد القاعدة وبتمويل وتوجيه إيراني، ومما تجدر الإشارة إليه دون استطراد: أن الزرقاوي قدم إلى العراق من إيران وقد أقام فيها مع العشرات من عناصره زمنا في أمن ودعة، وقد أقاموا هناك معسكرات تدريب، من السذاجة بمكان أن نقول إنها كانت بعيدة عن علم الأمن الإيراني أو تدبيره. وبعد سقوط المقاومة السنية وبقاء القاعدة وحدها في الساحة بدأت إيران بأمرين: الأول تكثيف الكتائب الشيعية التي تقتل السنة وترهبهم دون أن يجدوا من يدافع عنهم، مستغلين هجمات القاعدة على المواطنين الشيعة كورقة شحن طائفي. والثاني: تحريض القاعدة على استهداف الأميركان، هنا وفي هذا الوقت المتأخر بدأت عمليات القاعدة ضد الأميركان. وهنا يأتي السؤال: ما فائدة إيران من توجيه القاعدة لضرب الأميركان، أليسوا أصدقاء؟ الجواب: الصداقة نسبية، وتضبطها المصالح، وإيران أرادت من ضرب الأميركان بعض المكاسب منها:
1 – قطع أي فرصة لعلاقة أميركية سنية في العراق.
2 – تعجيل عملية تسليم العراق بالكامل لإيران، عبر إرهاق الحكومة الأميركية وإثارة الرأي العام الداخلي والخارجي ضدها. وهذا يذكرنا بما قامت به الهجانا [الجيش الشعبي] اليهودي ضد دولة الانتداب البريطانية، فبالرغم من أن بريطانيا هي من مكنهم من نزول فلسطين إلا أنهم بعد أن تكاثروا هناك بدؤوا بضربها كي تعجل في الرحيل وتسلم الأرض لهم. قامت الولايات المتحدة بتشجيع شيوخ قبائل السنة بضرب القاعدة، وهذا ما حصل فعلا، وهو ما سُمِّي بالصحوات. وحين نرجع لهؤلاء الصحوات نجدهم أصحاب مظالم حقيقية على القاعدة، فمنهم من قتلت القاعدة أباه أو أخاه أو ابنه أو عمه أو ابن عمه أو شيخ عشيرته، فما يقال عن الصحوات من تخوين مطلق ليس صوابا، فالقاعدة هي من بدأ عداوة أهل السنة.
والمأخذ الحقيقي على الصحوات ليس قتالهم للقاعدة، فهي المجرم الأول في حقهم، بل ظهورهم كحلفاء للأميركان المحتلين الذين استغلوا دعمهم للصحوات في تزكية احتلالهم. كما أن الولايات المتحدة لم تشكر للصحوات ما قدمته في قتال القاعدة، بل استمرت في استراتيجيتها الخبيثة وهي تسليم العراق للشيعة. وأحب أن أختم هذه المقالة بالإحالة إلى كتاب متميز وموثق في هذا الموضوع وهو الجماعات المتطرفة وإيران للباحث الابن سعيد بن حازم السويدي.

د.محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

رد واحد على “جواب استشكال حول القاعدة”

  1. بارك الله فيك ياشيخ ونفع فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.