توبة في مجلس الشيوخ الأمريكي *

صلاة السيناتور راندي ويبر في مجلس الشيوخ قراءة وتحليل

تكبير الخط تصغير الخط

في شهر مارس الماضي تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي صلاةًً ألقاها في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور من ولاية تكساس راندي ويبر ، وهي على الطريقة الكاثوليكية في التوبة التي يُشترط في قبولها حسب ديانتهم الاعتراف ، أي ذكر الذنب والاعتراف بارتكابه وطلب المغفرة منه ، وقد شاهدنا الحضور ومنهم أعضاء في مجلس الشيوخ وهم خاشعين يُؤَمِّنُون على هذا الدعاء متأثرين بكل ما فيه من كلمات وابتهالات تعني اعترافاً من عدد ،إن لم يكن من كل أعضاء أعلى سلطة تشريعية في الولايات المتحدة تمثل جميع الشعب ،بكل ما ارتكبته أمريكا من ذنوب وآثام .
ومن يعرف القِيَم التي أُسِّست عليها الولايات المتحدة يعلم أن ماحدث ليس أمراً عجيباً بل عودة في مجلس الشيوخ في هذا الظرف العصيب للأصول الدينية التي بُنيت عليها هذه الدولة العظمى الذي تقول إحدى مواد ميثاق تأسيسها الذي كتبه الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفرسون سنة ١٧٧٦م وهو أحد أبرز من يسميهم الأمريكان :”الأباء المؤسسون” تقول الفقرة:”الله مصدر جميع الحقوق” فالولايات المتحدة دولة ذات بُعد ديني منذ تأسيسها ، وأي بعد ديني لابد أن يكون بُعداً أخلاقياً ، وقد كانت الولايات المتحدة كذلك تعتني إلى حد كبير بالجانب الأخلاقي وفق النظرة المسيحية وأخص هنا الجانب المتعلق بالعفاف والأسرة والتكافل الاجتماعي وظل الأمر كذلك طيلة القرن التاسع عشر حيث بدأت الرأسمالية تؤثر في الجانب الأخلاقي ،وبدأت الفلسفة النفعية التي بلورها جون ديوي وويليم جيمس تتوغل في النظرة إلى تقييم الأخلاق لدى جميع الطبقات هناك بدلا عن الدين والموروث .

الطغيان الرأسمالي وعوامل أخرى على الحياة الغربية ببعامة والأمريكية بخاصة كلها أذهلت الحكومات والشعوب عن أهمية القيم الدينية في حياة الدولة ، وبالرغم من أن غياب هذه القيم سَبَبٌ في مشكلات كبيرة جداً ومعقدة ومُكلفة مالياً إلا أن الغرور والاعتداد بالقوة جعلت الدولة بمؤسساتها والإعلام والشركات العملاقة تتعامل مع الانحرافات القِيَمِية لا على أنها شر يجب الرجوع عنه ؛بل على أنها واقع يجب الاندماج معه وتكييف كل شيء لأجل الخضوع له ،الأنظمة المحلية والدولية والمؤسسات الثقافية والتربوية والاجتماعية ، كل شيء يجب أن يكون مسخراً للتَّكَيُّف مع الانحراف الأخلاقي وأيضا التأصيل للانحراف الأخلاقي واعتبار الاعتدال هو الانحراف ؛ وتَجَاوَز الأمرُ نظرةَ الساسة الأمريكان إلى بلادهم ليعملوا على فرض الانحراف الأخلاقي الأمريكي على العالم بحجة إشاعة القِيَم الأمريكية ونشر العدالة والحرية والعولمة ، واستخدمت الولايات المتحدة لنشر الانحراف الأخلاقي جميع أدواتها من دبلوماسية وتجارية وعسكرية وكذا هيمنتها على المنظمات الدولية.

الصَّلاة التي شهدتها إحدى قاعات مجلس الشيوخ ورأينا النواب فيها خاشعين خاضعين في دعائهم وجاءت على هيئة اعترافات كاثوليكية ، وإن لم يكن الحضور بالضرورة كاثوليك بل أكثرهم بروتستانت إلا أن الشعور بعظم المصيبة التي حلت بالولايات المتحدة جعلتهم يعتقدون أن مجرد التوبة لا تكفي ولكن يجب تسمية الجريمة أيضا.
الصلاة بشكل عام هي اعتراف بأن التوبة والرجوع إلى الله سبب من أسباب رفع البلاء لذلك افتُتِحَت بالطلب من الله أن يرفع البلاء عن هذه الأمة [الأمريكية] وللأسف لدينا في العالم الإسلامي من صرعى دعوات العولمة الأمريكية أناس يرفضون ذلك رغم أن الله يقوله في القرآن﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم وَيَعفو عَن كَثيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠] فهل سيتوبون هم أيضا كما تاب الأمريكان؟
سوف نستعرض بعد هذا التساؤل الجرائم التي اعترف بها السيناتور وأمَّن عليها الحاضرون ، وهي جرائم يتمنى البعض من العلمانيين والليبراليين أن نرتكبها في بلادنا ، بل يتمنون أن تصبح هي الطابع السائد في كل بلاد المسلمين فهل حان الوقت ليتوبوا كما تاب أعضاء الكونجرس ؟!
يقول النائب
“سامحنا يارب
اخذنا الكتاب المقدس بعيدا عن المدارس والفصول
وازلنا الوصايا العشر من على الجدران واستبدلنا كلماتك ومبادئك بالكلاب البوليسية ورجال الامن باللباس الرسمي وأجهزة الكشف التقنية”
هذه توبة من جريمة إبعاد التعليم الديني من المدارس ، وإقرار بما للتعليم الديني من فضل في الوقاية من كثير من المشكلات التي حلت بهم .
وفيها ندم على عدم التوكل على الله والاعتصام بكلماته والاقتصار على الكلاب البوليسية ورجال الأمن ووسائل التقنية لحمايتهم ، ويرى هذا النائب والمُؤَمِّنُون أن الله قد أصابهم بطريقة لا تستطيع كل هذه الوسائل إنقاذهم منها .
أليست هذه الجريمة قد طُبِّقت في أكثر بلاد العالم الإسلامي ، أليس الدبلوماسيون والساسة الأمريكان كثيراً ما يطالبوننا هنا في السعودية بفعل الشيء نفسه؟!
يقول النائب:”سامحنا يارب دسنا على مبادئ الميثاق المقدس[الزواج]واعدنا كتابته وسميناه اسلوب حياة بديلاً ”
هذه توبة من كل العلاقات خارج نطاق الأسرة التقليدية المكونة أساساً من زوج رجل وزوجة امرأة ، وهي العلاقات التي تدعو إليها اتفاقية سيداو ، ومؤتمرات المرأة التي عقدتها الأمم المتحدة في الصين والقاهرة واسطنبول وفي قمة التنمية المستدامة في الولايات المتحدة حينما صرح وزير الخارجية السعودي أن هذه العلاقات مرفوضة في بلادنا التي لا تعترف بأي علاقة إلا بما يُقره الدين.

ثم يقول النائب في صلاته :”سامحنا يارب
خالفنا كلمات موسى وقتلنا ضعفاءنا، قتلنا سلالتنا وسمينا ذلك حرية الاختيار”
يتحدث هنا عن الإجهاض الذي هو في الغالب إحدى نتائج العلاقات خارج الزواج ، وقد يكون أيضا داخل الزواج بشكل أقل ، لكنه في كلتا الحالتين جريمة في الإسلام وفي النصرانية ، لكن كثير من الكاثوليك لازالوا يتمسكون بتجريمه وأكثر البروتستانت وأكثر الولايات الأمريكية لا تجرمه ، وفي العالم الإسلامي مؤسف جداً أن هناك جمعيات حقوقية بزعمهم تدعو لسن قوانين تعطي المرأة الحق الكامل في الإجهاض ، وهو ما تدعو إليه منظمات الأمم المتحدة .
إذاً فالنواب في صلاتهم يعترفون بكون الإجهاض جريمة تستوجب غضب الرب سبحانه والجريمة الأكبر هي تنظيمها والتعليل لها وتسميتها بغير اسمها.
يقول النائب:” تغاضينا عن حكمة سليمان عندما قال المقترض عبد للمقرض..
ولدينا ديون بعشرين ترليون
مما يجعلنا الان اضحوكه للعالم.”
أعتقد أن الاعتراف والتوبة هنا من الربا الذي حذر منه أنبياء بني إسرائيل ، وقد ظل محرماً عند النصارى حتى عام ١٢٥٠م حيث بدأت الكنائس الأوربية تتدرج في إباحة الربا إلى أن أصبح نظاماً اقتصادياً ، وفي السنوات الأخيرة ظهرت تراجعات عن هذه الإباحة ورجوع إلى نصوص التوراة ؛ وفي هذه التوبة نجد الحديث جلياً عن عاقبة الربا وهو أن الدولة التي ترعاة أصبحت بسببه مدينة بتريلونات الدولارات .
وهذا ولا شك مصداق قوله تعالى ﴿فَإِن لَم تَفعَلوا فَأذَنوا بِحَربٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُءوسُ أَموالِكُم لا تَظلِمونَ وَلا تُظلَمونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩].
ما قدمت هو أظهر ما جاء في هذه الصلاة والتوبة ، وهي ليست شاملة لكل ما ارتكبته الولايات المتحدة من جرائم في داخلها وفي العالم ، ومع ذلك فهي أمر جيد لو انتقلت من كونها إجراءً دعائياً ذا غايات سياسية وانتخابية لأن تصبح منهجا تجديدياً في سياسة الولايات المتحدة الداخلية والخارجية ، لو حدث ذلك ولا أظنه يحدث فهناك أشياء كثيرة في هذا العالم ستتغير ، لكن الرأسمالية لا تترك المشاعر الإيمانية تسيطر على العقول والأبدان وكلما انتهت أزمة تسببت في إيقاظ الشعور الإيماني تعود الأمور كما كانت أو قريباً مما كانت حتى تحل سنة الله التي ليس منها تحويلاً ولا تبديلاً ، كما قال تعالى: ﴿فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ أَنجَينَا الَّذينَ يَنهَونَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ﴾ [الأعراف: ١٦٥]
فسنة الله في أخذ من لا يتعظ بعد التذكير ماضية ، وسنته تعالى بنجاة الذين ينهون عن السوء باقية ، ولهذا فإن من أعظم الاستراتيجيات التي ينبغي على الأمة الإسلامية التحضير لها في قادم الأيام هو أن يكونوا دُوَلاً وشعوباً من هذه الفئة الناجية من سخط الله تعالى حينما يأخذ المعاندين بغتة.

د محمد السعيدي

*كانت هذه الصلاة في ٢٠١٧م لكن مضمونها لم يتغير ومحل للاستشهاد والاعتبار في كل وقت

التعليقات

8 ردود على “صلاة السيناتور راندي ويبر في مجلس الشيوخ قراءة وتحليل”

  1. يقول طارق الفياض:

    لله درك ومقال في الصميم

  2. يقول مشعل:

    تعليق أكثر من رائع..

  3. يقول عبدالرحمن بن عمر:

    بارك الله فيك يا دكتور مقال مناسب للحال فقد تجرأ بعض الكتاب المسلمين بالسخرية من الدعاء والقنوت: فقد قال أحدهم ما معناه أغلقت المساجد وام نخسر شيئا. وقال آخر ما معناه لن ينفعنا ما يأتي من السماء بل ما في الأرض هو ما سيفيدنا

  4. يقول محمد القرني:

    تفاعلا مع مقالكم يا دكتور كتبت هذه الأبيات أستأذنك لعرضها هنا .

    الكنقرس يصلي !!:

    قام في مجلس الشيوخ اعتذار
    و(صلاةٌ ) كئيبةٌ وانكسار. !!

    واعتراف بما جنوه قرونا
    طائلات وذاك خزيٌ وعار

    قلت : صلوا كما تشاؤون وابكوا
    كالتماسيح دمعُها مستعار

    مثلكم تقتل القتيل وتبكي
    أين يا مجلس الشيوخ الوقار

    هل تصلون خشيةَ الله ؟! كلا
    إنما الرعب أن يضام (الدلار)

    والصلاة التي تصلون زورا
    هي للمكر والخداع شعار

    واعتراف بكل جرم فهلا
    كان منكم إلى الصواب المسار !

    ليس نبلا إذا اعترفتم ولكن
    ظلمةُ الليل يقتفيها النهار!!

    بالمخازي وبالخراب نشرتم
    صحفَ العار ما عليها ستار!

    هل تعيدون للحياة شعوبا
    قد أبيدت صغارها والكبار

    والحقوق التي دعوتم إلبها
    (في غياب الضمير) كيف البدار؟!

    أي حق من الذي ظل دهرا
    يهلك النسل والكؤوسُ تدار؟

    أي حق وقد أبدتم شعوبا
    آمناتٍ كريمةً لا تضار ؟!

    أظهر الله ما كتمتم زمانا
    يستوي ( الفيل) منكم (والحمار)

    سنة الله فاستعدوا ليوم
    مالكم منه مهربٌ أو خيار

    إن للظلم دولةً ثم تفنَى
    فعليها رحَى المنون تدارُ

    أيها العالَمُ الجريحُ تعلَّمْ
    للرزايا ترقبٌ وانتظار

    واعتبر بالذي جرى فهو درس
    كل ما فيه حكمة واعتبار !

    كل وغد ينازع الله حتما
    سوف يلقى الردى ولا يستشار

    ذاك أن البقاء لله حقا
    والبرايا لها إليه افتقار.

    ١٤٤١/٨/١٨

  5. يقول محمد المرشود:

    كلام جميل جدا

  6. يقول محمد بن سعيد بن سعد القرني:

    زادك الله توفيق وسداد ونفع الله بك وبعلمك وعملك أمة الاسلام.
    احسنت احسن الله إليك. اسال الله ان ينفعنا جميعاً بما تقول وتكتب من الحق.

  7. يقول محمد بن سعيد بن سعد القرني:

    زادك الله توفيق وسداد ونفع الله بك وبعلمك وعملك أمة الاسلام.
    احسنت احسن الله إليك. اسال الله ان ينفعنا جميعاً بما تقول وتكتب من الحق.
    تذكير لكل مسلم بالتوبة الى الله والاستغفار والاستقامة على الصراط المستقيم وتزود بطاعة الله واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتعلم القران والسنة ودبر القران وتعليم الناس الخير.

  8. يقول محمد ابوالخير:

    اللهم اسئلك علما نافعا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.