تعليق على ما يُذَاع من تسريبات لقاءات بعض أدعياء العمل الإسلامي مع القذافي

تكبير الخط تصغير الخط

ينتاقل الكثيرون تلك التسريبات من لقاءات خبيثة مع الهالك معمر القذافي من بعض من ينتسبون إلى التدين والمناداة بالحرية والعدل والمساواة والحقوق على أساس ديني ، ويتخذون من هذه الشعارات فرصة للتأليب على الحكام ، واستقطاب من تعميهم أحلامهم وعواطفهم عن مقتضى البصيرة ليُحققوا من هذا الاستقطاب مآرب خاصة بهم ، ليست بالضرورة مآرب مادية ؛ بل ربما تكون مآرب في نشر شبهات وبدع أو مآرب في نفوذ حزبي أو إرضاء سيد مصطنع لهم أو غير ذلك من تسويلات إبليس .

استمعت لهذه التسريبات ولي عليها التعليقات التالية :

١- علامة الانحراف العقدي هي ذاتها علامة الانحراف الفكري ، إذ لا تنحرف العقيدة إلا بانحراف منهج التفكير ، فلا يُمكنك أن تقول :إن فلانا سليم في معتقده منحرف في فكره ، ولا أن فلاناً منحرف في فكره سليم في اعتقاده ،فانحراف أحدهما علامة انحراف الآخر ، وقد تنحرف العقيدة فيحرف المرء فكره كي يُسَوِّغ انحراف عقيدته ، وقد ينحرف فكرُه فتنحرف جراء ذلك عقيدته .

ولا يسلم من ذلك المنحرفون في فكر الإصلاح السياسي ، فبقدر الانحراف فيه عن النهج الذي أقرَّه الكتاب والسنة يكون ثَمَّ انحراف عقدي ، يبتعد الإنسان فيه ويقترب ، ولذلك عبر تاريخ الإسلام ارتبط الانحراف في الفكر السياسي بالمذاهب العقدية البدعية ، فطوائف من الشيعة والمعتزلة والخوارج انحرفت إلى  جانب مانسميه اليوم الاتجاه  الثوري ، فلا يعتنق أحدٌ على مدى التاريخ الفكرَ الثوري في الإصلاح إلا وفيه شعبة أو تزيد من شُعب إحدى هذه الفرق ؛ وطوائف أُخَرُ من الشيعة والصوفية والمرجئة إلى جانب الانحراف إلى الإدبار عن الإصلاح العام والاتجاه نحو النفس والغرق في الذات ؛ فلا تجد منحرفاً إلى جانب التخلي إلى الذات إلا وفيه شعبة أو أكثر من شعب إحدى هذه الفرق ، ولذلك فليس المُعَوَّل على المنحرف في الفكر السياسي وصفَه لنفسه بأنه سُنِّي أو أثري أو سلفي ، بل المعول عليه هو مدى مطابقة نظرته للإصلاح لما دل عليه الكتاب والسنة ، فإن الله تعالى قد بين سُبُل إصلاح الأمة  في سياستها وجميع أحوالها ، فمن حاد عمَّا بينه الله فقد انحرف في اعتقاده وفكره ؛ لأن الدِّين هو الوقوف عند حدود الله تعالى ، والواقف عند حدود الله ليس من يتخير منها ما راق له وينبذ مالم يَرُق له ؛ بل الذي يأخذ شرع الله أجمع ،يطيع الله فيما وافق هواه ويصبر على مالم يوافق هواه إلى أن يبلغ من الإيمان حداً يكون هواه فيه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رُوي عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ومما جاء به صلى الله عليه وسلم: طاعة من ولاهم الله الأمر في غير معصية ، والصبر على أهل الجور منهم ، وإصلاح الأمة ليس عن طريق منابذتهم السيف وإذكاء الأوار عليهم ، لأن ذلك مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يُطمَأنُّ إلى رجائه ولا تُحمد عاقبته ، وإنما بالاجتهاد في نصيحتهم

والسعي في إصلاح الأمر بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .

فالبناء المتين يبدأ من الأسفل إلى الأعلى ، وبناء الأساطير والخرافات يبدأ من الأعلى للأسفل ،لذلك  فمراحل الإصلاح في الإسلام تبدأ  بإصلاح حال الأمة في توحيد ربها ثم طاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وتهذيب أخلاق الناس ونفوسهم ،ليصبح الإنسان طوع أمر ربه فرداً ومجتمعا ، ويصير كفُاً لحمل المسؤولية عاجلاً وآجلا ، فإذا بذل المصلحون همهم في ذلك أنجح الله مقاصدهم واستخلفهم في أرضهم ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وأمنهم من بعد خوفهم ، وأصلح لهم ولاة أمرهم ، كما قال تعالى : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [النور: ٥٥].

٢- ومن لم يع ذلك وعمل بضده تحقق له ضدُّه ، فكان وبالاً على نفسه ، وإنْ أطاعته أمتُه كان وبالاً عليها ، فتفرُط منهم الأرض ولا يتمكنون منها ، ولا يتأتى لهم إقامة دينهم ، ولا يزدادون في حياتهم إلا خوفا.

٣-ومما يزدادون به من السوء أن الأمور تزيد عندهم التباسا بتسويل الشيطان وإملاء أنفسهم المريضة ، حتى إنهم ليبتغون طاعة الله بمعصية الله ، ونصرة الله بالاستنصار بالشيطان ، وهذه حقيقة ما فعله هؤلاء المفضوحون بالتسريبات أجارنا الله وإياكم ، وتضمحل عندهم العقول حتى لا يستطيعون إدراك حجم التناقض الذي يفعلونه ويدعون إليه ؛ ولهذا حينما يسأل البعض :

كيف يتسنى لهؤلاء التوفيق بين مبادئهم التي ينادون بها وبين التعاون على زعم تحقيقها مع طاغية وطاغوت  كالقذافي  ، ألم يدركوا تناقضهم ، ويخجلوا من أنفسهم وعليها ؟

والجواب : أن ذلك شيمة في أهل الطوايا الخبيثة والبدع الردية ، وهي بحثهم عن أهل الشر واستئناسهم واستقواؤهم بهم ليعينوهم على أهل الخير أو من هم أقرب إلى الخير  ، وهذا كثير في التاريخ القريب والبعيد والحاضر.

أضرب مثلاً من التاريخ القريب : أنه خرج على الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى رجال زعموا أنهم خارجون لله لتغيير المنكر الذي وقع فيه عبدالعزيز وهو التعاون مع الكفار الأمريكان والبريطانيين ، وبفعله ذلك يكون قد كَفَرَ ولا ولاية له على المسلمين  بزعمهم.

ثم فضح الله هؤلاء كما فضح أصحاب القذافي اليوم .

تقع في يد الملك عبدالعزيز مخاطبة أحدهم مع جلوب باشا  ، المسؤول العسكري البريطاني في العراق ، قبل أن ينتقل للأردن يطلب منه العون والمدد.

ويجتمع الآخر مع المندوب البريطاني في صفوان في جنوب العراق .

فهؤلاء الذين يُكَفِّرون عبدالعزيز  بموالاة الكفار يقعون في الموالاة حقاً .

والفرق بينهم وبين الملك عبدالعزيز : أنه سلطان يتعامل مع الدول الأخرى كافرة ومسلمة ليجلب لشعبه خيراً ويدرأ عنه شراً ، أما هؤلاء فيتعاملون مع الكفار ليسقطوا حاكمهم ويسلموا بلادهم للفوضى بعد أن أنقذهم الله منها .

وفي عصرنا الحاضر  نرى بأعيننا أولئك الذين يزعمون أنهم معارضين إسلاميين سعوديين ، يعارضون أعظم دولة تقيم شعائر الله منطلقين من  دولة الاستعمار التي لم تُعرف إلا بالتآمر على بلاد المسلمين وإيواء المتآمرين وهي بريطانيا ، والعجب أن أحدهم صرَّح في لقاء تلفزيوني :أنهم اختاروا بريطانيا لكونها بلاد المؤمرات ، فأي وقاحة يعترفون بها بعلمهم بسوء ما يعملون ؛ وَجُلُّ أدبيات أدعياء المعارضة هؤلاء الدندنة حول عمالة السعودية للأمريكان وولائها للغرب ، فإذا كانت السعودية دولة تتعامل مع الغرب لترعى مكانتها وتحفظ بيضتها وتصون مصالح أمَّتِها ، فهؤلاء لا يجهلون أن بريطانيا تستضيفهم لتستغلهم وقت ما تريد وتفعل بهم ما تشاء وقت ما تشاء ، من أجل إضاعة مكاسب الأمة وتفتيت قوتها .

٤-هذه التسريبات إحدى النعم التي ساقها الله تعالى للمملكة العربية السعودية لفضح أدعياء خصومتها بلا حول منها ولا قوة ، أقول : أدعياء خصومتها ، لأن خصومة المملكة فيها إقرار بشيء من النِّدِّيَة ، وهؤلاء أقلُّ وأذل من أن يكونوا أنداداً لهذه الدولة ، بل هم مجرمون يتزيون بزي الصلاح ، وفي الأثر أن رجلاً سرق أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما استضافه في بيته لما رأى من تصنعه التدين والذكر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فلا عجب أن يسعى البعض باسم الدين بإفساد المجتمعات بدعوى إصلاحها ، كما أن هناك من يزعم السعي لإصلاح الدين بمعاداة الدين ومناهضة شرائعة ، فكلا الأمرين متصور عقلاً وحاصل تاريخاً وواقعاً ، على أن الإفساد عن طريق ادَّعاء التدين ، أو الإفساد عن طريق شُبُهَات تلحق بالمتدين يكون في كثير من المرات أخطر ممن يظهر عداوة الدين ومناوأته .

وهي نعمة للمملكة لأن الكثيرين تغرهم مظاهر التدين أو شعارات العدالة وما شاكلها فيعطون عقولهم وقلوبهم لأمثال هؤلاء فيتبعونهم حتى يوردونهم المهالك كما فعل فرعون بمتبوعيه في الدنيا وكما سبفعل في الآخرة ﴿يَقدُمُ قَومَهُ يَومَ القِيامَةِ فَأَورَدَهُمُ النّارَ وَبِئسَ الوِردُ المَورودُ﴾ [هود: ٩٨]

ولهذا فإن هذه الواقعة  من ضمن دروس كثيرة ينبغي أن يستفيد منها الشباب :أن من الأدلة على فساد أفكار هؤلاء وطرائقهم زعمهم السعي للإصلاح بالتضامن مع المفسدين في منابذة حكام دولهم وحكام دول جيرانهم ، فكيف تصلح الكويت أو السعودية بالتعاون مع القذافي الذي لم يُصلح بلده في أي منحى من مناحي الحياة ، والذي لا أعتقد أن العالم الإسلامي شهد أسوأ وأطغى منه على أمته وشعبه منذ مئات السنين ، هذا القذافي الذي ثار على ملك صالح صائم مصل ، الملك إدريس ، أظهر الله في عهده لشعبه ثروة الأرض وبدأوا بالاستفادة منها والإثراء من خيراتها حتى ثار القذافي فَهَجَّر الناسَ من بلادهم وجعلهم مشردين في أرجاء الدنيا ، وحَرَمَ من بقي  من خير أرضهم وجعلها وهي الأكثر ثراءً والأقل سكاناً أكثرَ بلاد الشمال الإفريقي تخلفاً ، وأكثرها استبداداً وأفسحها سجوناً .

ثم يأتي هؤلاء يتآمرون معه بزعم إصلاح بلادهم ، هذا والله ما لا يقبل قوله ولا يُعقل تصديقه ، ومحاولتهم اليوم تبريره بزخرف القول مما لا ينبغي تصديقه ولا الركون إليه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم :(والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فهذه شهادة نبوية بأن ما فعلوه إثم وما كتموه كل هذه السنين إلا لعلمهم بمأثمه ، وخوفهم من مغرمه الدنيوي ، أما المغرم الأخروي فيحول بينهم وبين خوفه بحر التأويل الذي يحسن خوضه كل مبتدع فيجعلون به الباطل حقاً والسَّفَه عقلاً شأن كلِ منافق عليم .

وعلى ذكر تقارب أهل الباطل جميعاً لا يعزب عن ذاكرتي أدعياء الحرية   والعدالة من القوميين واليساريين في السبعينات الهجرية حين كانوا يستقوون على السعودية دولةِ العروبة والإسلام بجمال عبدالناصر إستاذِ القذافي ومثله الأعلى في الجور على الحق والخلق ، فسبحان من جمع بين أهل الضلال في المسالك والشعارات وإن اختلفوا في المنطق والمنطلقات.

د محمد السعيدي

التعليقات

رد واحد على “تعليق على ما يُذَاع من تسريبات لقاءات بعض أدعياء العمل الإسلامي مع القذافي”

  1. يقول ضد الثورجية:

    سعيد جدا دكتور محمد بهذا الطرح ليتك تنزله في تويتر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.