الهوية في حوار ولي العهد بين تأويل الأهوائيين وطعن المناوئين 

تكبير الخط تصغير الخط

الهوية في حوار ولي العهد بين تأويل الأهوائيين وطعن المناوئين

غني عن الثناء ذلك اللقاء مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد ووزير الدفاع السعودي   الذي أجراه قبل أيام الإعلامي عبدالله المديفر وبثته العديد من القنوات السعودية ، وتناقلت محتواه أهم وكالات الأنباء العالمية ؛ فقد عَبَُر الأمير عن شخصية القائد المدرك لمسؤولياته العارف بدقائقها ، المُنطلق في كل ما يقول من رؤية مكتملة الأهداف والمنطلقات والوسائل .

من منطلق أن كل متحدث ينبغي أن يتوقف ويناقش ما يدخل ضمن نطاق تخصصه ، فإنني أجعل حديثي مقتصراً على ما ورد في هذا اللقاء  حول بعض القضايا الشرعية ، والتي أجدها من  زاوية فكرية أهمَّ ما في الحوار ، وإن كان ما بعدها وما قبلها من موضوعات قد ينظر إليها البعض على أنها الأهم . وهم من لا يرون ترابطاً بين  الفكر والعمل  فيقدمون المنظور التنموي والاقتصادي على كل شئ ، وهذا التوجه ليس صواباً ، وإنما الصواب هو ما تُبنى عليه معظم دساتير الدول ومنها النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية ، أي :اعتبار الهوية هي الركيزة التي تُبنى عليها قرارات جميع الدول ذات السيادة التامة سواء أكانت تنموية أو ثقافية ؛ ويُعتبر تذويب الهوية أو تنحيتُها عن الجانب العملي لأي دولة انتقاصاً في السيادة ، فإذا كان هذا الانتقاص لصالح هوية أخرى يراد لها مزاحمة أو زحزحة الهوية الأصل ، فهذا نوع من أنواع الاستعمار يُسَمَّى الاستعمار الثقافي . 

ومن إدراك سمو الأمير لهذا الأمر  جاءت أهمية تضمين حواره الحديث عن الهوية ، ذلك الجزء الذي ابتدأ تحديداً من الدقيقة الثانية والستون حتى الدقيقة الرابعة والثمانون تقريبا،  وتناول أهم قضايا الهوية بأجوبة واضحة ودقيقة ومختصرة ؛ ورغم وضوحها إلا أن كثيرين من الكُتاب في الداخل والخارج رغم تباين منطلقاتهم إلا أنهم توافقوا في تأويلها وصرفها عن معناها الذي تدل عليه لغةً واصطلاحاً  ، وأعني بهم بعض الكُتَّاب المنتمين للتيارات الليبرالية و التيارات الليبروإسلامية ،وتيارات الحركيين الإسلاميين، والثوريين وأدعياء المعارضة السعودية ؛ وكل تيار من هؤلاء له هدفه من هذا التأويل ، فالليبراليون ومن شاكلهم من أدعياء التنوير ، امتلكوا الذكاء السياسي ، واشتغلوا وفق قاعدة معروفة لدى المتخصصين في إدارة الرأي العام وتوجيه السياسات وهي المسارعة في صرف معاني تصريحات القادة وأعضاء السلطات التشريعية إلى ما يخدم توجهاتهم الفكرية لأن رواج هذا التفسير إعلامياً سوف يؤدي مباشرة أو تدريجاً إلى قناعة السلطات التنفيذية به ومن ثَمَّ يكون تنفيذ الأنظمة والقرارات على وفق هذا التفسير .

أما الثوريون والحركيون وأدعياء المعارضة ، فيصرفون معاني التصريحات عن ظاهرها بقصد التشويه والإساءة ، وهم يستعينون على إثبات صحة تفسيراتهم المنحرفة عن الأصل بأقوال الليبراليين ومن شايعهم من الليبروإسلاميين .

وللأسف فإن غالب طلبة العلم الشرعي بعيدون عن هذا التكتيك وغالباً ما يبقون بين صامت أو متأثر بما يطرحه أولئك من تفسيرات ، وكان الأجدر بهم أن يُعَبِّرُوا عن سعادتهم بهذه التصريحات ويؤكدوا على معاني ألفاظها قبل أن تختطفها الطيور الجوارح ، أما ما فعله بعضهم على وسائل التواصل من الندب والتباكي فليس سوى استسلاماً لتفسيرات المنحرفين وتأثراً بها  وليسوا على ذلك من المعذورين.

وهذا ما حدث فعلاً مع الجزء المتعلق بالهوية من حديث الأمير محمد بن سلمان ، ولأجل ذلك ثارت ثائرة جميع هؤلاء الأضداد حينما صدر بيان أمانة هيئة كبار العلماء يؤكد الدلالة اللفظية لكلام  سموه وينفي صحة التأويلات التي تعرض لها الحديث ؛ فاستاء أصحاب بعض التوجهات الليبرالية من البيان وعدُّوه إغراقاً في الظلامية ، وأما الحركيون من الإسلاميين فَعدُّوا هذا البيان من خيانة الدين التي تمارسها الهيئة بزعمهم ومن صَمْت العلماء والركون إلى الدنيا.

والحقُ هو ما ذَهَبَت إليه أمانة الهيئة فإن كلام سموه لم يختلف عمَّا تعلمناه ثُمَّ علَّمناه في مناهجنا الدراسية التي أشاد سموه بها وقال إنها خَرَّجَته وخَرَّجَت جميع قيادات المملكة ، كما لا يختلف عن حقيقة ما قرأناه في كتب الدعوة السلفية ؛ أما ما تحدث به مَنْ تَحَدَث فليس سوى أماني منحرفة أو إرجاف في الأرض بقصد الاستمرار في الإساءة الممنهجة لبلادنا .

فقد كان الحديث الأول عن الاعتدال فأرجع الأميرُ تعريفه إلى اجتهاد الفقهاء منذ أكثر من ألف عام وذكر أنه ليس في موقع يُمَكِّنُه من أن يشرح مفهوم الاعتدال سوى أنه يلتزم بالكتاب والسنة وما نص عليه النظام الأساسي للحكم .

فهذا الكلام رَدٌّ مُوَفَُق غاية التوفيق على من اتهموا السعودية بالتحول إلى العلمانية ؛ ولا يفوتنا أبدًا أنه كلام لم تستطع أن تقوله جميع الأحزاب الإسلامية التي تُزَايد اليوم على المملكة في إسلاميتها ، ويُمكن لمن يُغالط في ذلك أن يراجع الدستور التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية منذ خمسة عشر عاما ، والذي لم يجرؤ على إضافة الإسلام دين الدولة ، تلك الكلمة التقليدية الموجودة في أكثر دساتير الدول الإسلامية فضلاً عن أن يذكر الكتاب والسنة ، وكذلك دستور مصر في حقبة حكم الإخوان ، أو الدستور التونسي الحالي الذي شاركت حركة النهضة في صياغته وكذلك دستور ٢٠١١ للمملكة المغربية وهو الذي شارك في إقراره الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية المحسوب على الإخوان المسلمين ، ليس فيه ذكر للكتاب والسنة وإنما الإسلام مقرونا بالمغاربية والحرية  .

بل أقول وبوضوح إنه لا يوجد قائد عربي مسلم على رأس الحكم أو في المعارضة الرسمية يجرؤ اليوم على أن يعلن وعلى الملأ  وفي برنامح تتناقله جميع وكالات الأنباء العالمية أنه يتمسك بالكتاب والسنة ، وأنه يفهم الاعتدال على ضوء ما قرره نظام الحكم المبني عليهما  ؛لكن يأبى المزايدون إلا جعجعةً ولا نرى طحينا.

ثم يؤكد الأمير ذلك ويقول:” وتطبيقه على أكمل وجه بمفهوم واسع يشمل الجميع” وهذه حقاً هي سِمَةُ النص الشرعي ، فمفهومه واسع ويشمل الجميع ، فالشريعة الإسلامية كما أنها ثابتة فهي شاملة ، فالكل يدخل في أحكام الكتاب والسنة،  ونصوصُهُما قادرة على استيعاب جميع المستجدات والأحوال ، لم يقل أحد من علماء المسلمين ولا علماء الدعوة السلفية بغير هذا في كل زمانٍ ومكان .

وعندما سُئل حفظه الله عن مساحة الشريعة في الدولة والقضاء ، أفاد بأن الدولة على جميع المستويات الحكومة كسلطة تنفيذية ومجلس الشورى كسلطة تشريعية والملك كمرجع للسلطات والقضاء كلها ترجع للكتاب والسنة ولا يمكنها تجاوزها ، وأستحضرُ هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل سعد بن أبي وقاص :” هذا خالي فليُرني امرؤ خاله” وأنا أقول هنا: هذه قيادتنا فيلرني امرؤ قيادته ؛ فأي قيادة إسلامية اليوم في السلطة أو في المعارضة تستطيع الجهر بذلك في ظل الضغط الدولي لفرض العلمانية ؟!

ثم أفاض سموه قليلاً في تقسيم السنة إلى متواترة وآحاد وأخبار  ، وختم كلامه بقوله:”الحكومة في الجوانب الشرعية ملزمة بتطبيق النصوص التي في القرآن وملزمة بتطبيق النصوص في الحديث المتواتر ، وتنظر في الأحاديث الآحاد حسب صحته وضعفه ولا تنظر في الحديث الخبر [المنقطع ]بتاتاً إلا إذا كانت تسند عليه رأياً فيه مصلحة واضحة للإنسان”

فأنا أريد من يخبرني مَن هو العالم الذي يخالف في هذا الكلام من الصحابة رضي الله عنهم حتى يومنا هذا ؟

لذلك أقول : إن الليبراليين وأشياعهم ممن زعموا أن هذا القول  تجديد لم يكن يعرفه العلماء ليسوا صادقين ؛ بل هذا إجماع علماء الأمة ، وإجماع علماء الدول السعودية الثلاث من عهد المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود حتى مؤسس الصرح الحديث الملك عبدالعزيز ، إلى يومنا هذا .

واليوم تؤسس السعودية مجمع الملك سلمان للسنة النبوية يقوم عليه أحد أعضاء هيئة كبار العلماء ، ولعل من أعماله ما سيكون دراسة لأحكام الأحاديث رواية ودراية.

وأما أدعياء الإسلامية ممن زعموا أن الأمير ينكر العمل بخبر الواحد فليس لهم سبيل لادعاء ذلك سوى الكذب أو الغفلة والاستماع لما يقول الخصوم وعدم التثبت منه ، فهذا نص الأمير يرى الأخذ بالآحاد إذا صح ، ويرى عدم الأخذ بالمنقطع إلا إذا عُضِّد بمصلحة واضحة للإنسان ، فأين الخلل في هذا التقعيد إلا لدى من غلب العداء عليهم وجانفوا العدل لأجل ما أُشبعت قلوبهم من كراهية ، ولو عَدَلوا لعلموا أنه لا قائد اليوم يقول بالعمل بالسنة المتواترة فضلاً عن الآحاد ، وكان حق الأمير عليهم  في مقالته تلك الدعاء له وتسديده وتأييده وليس منابذته والكذب عليه ؛ والمصيبة أنهم يكذبون عليه ويُقَوِّلونه مالم يقل  باسم الغيرة على الدين ، ولو صدقت غيرتهم وديانتهم لعَدَلُوا وما كذبوا ، وحسبهم بالعدل دينا.

ثُمَّ إن الأمير أتْبَع كلامه هذا بمثال تطبيقي استخدم فيه خبر الواحد الثابتة صحته وهو قتل الزاني المحصن ، وهو خبر رُوِيَ عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حيِّز الآحاد ، وكذلك في ختام اللقاء استشهد بحديث “يخرج من ضئضئ هذا رجال حداث الأسنان سفهاء الأحلام .. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم” ورواه بمعناه وهو من أخبار الآحاد  ، فكيف غاب هذا عن من افترى على الأمير  وزعم إنكاره المطلق للعمل بالآحاد.

وتحدث الأمير أثناء ذلك عن قضيتين مهمتين ، الأولى في وسائل الإثبات ، فمن ارتكب معصية بينه وبين الله تعالى من المعاصي غير المتعدية ، فليس من مهمة الدولة ولا المجتمع إثباتها إلَّا إذا ثبتت بإقرار ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الزانية ، فإنه تركها حتى أقَرَّت على نفسها أربع مرات ، وهذا المثال الذي ضربه سموه – كما قدمنا- في المعصية غير المتعدية ، أما المعاصي المتعدية ، كالسرقة والاتجار المحرم والمخالفة الظاهرة على الملأ للقِيَم الإسلامية ، والمجاهرة بالمعاصي الثابت حرمتها ، أو المجاهرة بالإساءة إلى الدين ورموزه ،أو مخالفة الأعراف السائدة التي أصبحت في مقام النظام الاجتماعي  فكل هذه -كما لا يخفى- من حق المجتمع الشكوى منها ، ومن واجب أجهزة الدولة تتبعها ، ولم يتطرق لها الحوار -والأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية ولله الحمد واضحة في هذا الشأن ، ولدى الأجهزة المخولة بالقبض والتحقيق في السعودية نصوص نظامية في طرائق القبض ووسائل الإثبات ، ولدينا تنظيمات خاصة مستمدة من الشريعة حول كثير من هذه المعاصي المتعدية كنظام الرشوة ونظام خاص بالاتجار بالمخدرات ونظام حول المال العام ، ونظام متعلق بالقِيَم والأعراف باسم الذوق العام ، والعديد منها تم تحديثه في عهد الملك سلمان ونجله حفظهما الله .

الثانية : العقوبات ، حيث ذكر سموه أن لا عقوبة إلا بنص من القرآن أو السنة المتواترة ، ومن السياق ومن المثال الذي ضربه سموه يتضح أن مراده هو العقوبات البدنية ، والتي تسمى في الفقه بالحدود ، والأمر فيها كما ذكره سمو الأمير ،لا خلاف في ذلك بين أئمة أهل السنة والجماعة من جميع المذاهب الأربعة، فلا حدَّ إلا بنص ، وكل من حاول الاصطياد في ذلك فقد ركب البهتان وأبعد عن طلب الحق .

وأما التعزيرات كالعقوبات المالية والسجن فلم يتطرق إليها سموه ، ولم تكن مرادَةً في سياق الحديث ؛ والقضاء السعودي ينص على كثير منها ، كعقوبة قتل الخطأ وقتل شبه العمد ، وعقوبات ما يُسمى في العُرف القضائي الجُنَح ، وبعضها متروك لنظر القاضي ، وأعتقد أن هناك تنظيمات جديدة على وشك الصدور تحدد هذه العقوبات أيضا .

وسُئِلَ سموه عن مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وهل هي من ستفسر هذا القرآن والسنة ؟

فأجاب حفظه الله بما مُحَصِّلَتُه : إننا لا ننتمي لمدرسة معينة ولا نؤله أحداً ، بل مرجعنا الكتاب والسنة ؛والاجتهادُ مفتوح ، وفق النصوص ، مع مراعاة تغير الزمان والحال ، ولو بُعِث محمد بن عبدالوهاب ووَجَدنا ملتزمين بفتاواه لانتَقَدَنا .

وهذا الكلام هو ما دَرَسْناه وما دَرَّسْناه لتلاميذنا ، وما عهدنا علماءنا الأكابر ومشايخهم عليه من قيام الدولة السعودية حتى اليوم ، وهذا ما نص عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في محاضرته التي أعادت دارة الملك عبدالعزيز طباعتها منذ وقت قصير ، بعنوان ” الأسس التاريخية والفكرية للمملكة العربية السعودية” 

فلا يوجد شيء اسمه مدرسة محمد بن عبدالوهاب ، ولم يَدْعُ ابن عبد الوهاب إلى مدرسة محددة ، بل دعا إلى الكتاب والسنة ، ووافقه على ذلك جميع أئمة الدولة السعودية بدءًا بالإمام محمد بن سعود وابنه الإمام عبدالعزيز بن محمد حتى الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن  وأنجاله الكرام وهذه رسائلهم موجودة تحكي ذلك ، طبعتها دارة الملك عبدالعزيز أيضا.

بل إن الدولة العثمانية أفتى علماؤها بإغلاق باب الاجتهاد ، وكان الاجتهاد محرماً بفتاوى من أئمة المذاهب الأربعة ومُجَرَّماً في أنظمة الدولة العثمانية ، وكانت الدولة السعودية في طورها الأول هي أول من أعلن علماؤها ، وجوب الاجتهاد على القادر عليه ، بعد قرون من الفتوى بإغلاقه ، ثُمَّ تبع علماءُ العالم الإسلامي علماءَ الدولة السعودية الأولى في ذلك ، فكل من أفتى بضرورة الاجتهاد بعد القرن الهجري الثاني عشر ، هو عالة وتبع لعلماء الدولة السعودية الأولى ، ثم الدولة الثالثة حيث كان الملك عبدالعزيز أول من وحَّدَ صلاة المسلمين على إمام واحد ، ثم تَبِعَته بعد ذلك مساجد العالم الإسلامي ، والعالم الإسلامي كله مَدِين في فتح باب الاجتهاد للدولة السعودية وعلمائها .

ولاشك أن الاجتهاد ليس عملاً عبَثياً يُوكَل إلى غير أهله ، بل لا يقوم به إلا من وعى أدلة الكتاب والسنة والإجماع وأتقن القياس وعرف العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين إلى غير ذلك من الشروط المعروفة للاجتهاد .

 وهذا هو المعمول به في بلادنا ، فإن الديوان الملكي يضم بتوفيق الله تعالى خمسة من المستشارين من أعضاء هيئة كبار العلماء إضافة إلى المستشارين الشرعيين الآخرين  ، وفيه نص قرآني يقول الله تعالى فيه : ﴿وَإِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذاعوا بِهِ وَلَو رَدّوهُ إِلَى الرَّسولِ وَإِلى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَستَنبِطونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطانَ إِلّا قَليلًا﴾ [النساء: ٨٣] فهناك فئة من الناس تخصصوا في النصوص الشرعية رواية ودراية ، وهؤلاء هم أهل الاستنباط الذين يَرجِع إليهم أولي الأمر في استنباط الأحكام من النصوص.

ثم سُئل حفظه الله عن سبب اختياره لتقنين الفقه الإسلامي بدلاً من المدونة القضائية ، فأجاب ببعض السلبيات لترك كل قاض يحكم باجتهاده الخاص ، ومن هذه السلبيات أنك لا يُمكنك أن تقنع الشركات الأجنبية ولا العقول التي تريد أن تستقطبها مالم يكن لديك قانوناً واضحا يلتزم به جميع القضاة ويعرف المتخاصمان من له الحق ومن عليه الحق بشكل واضح وميسر ، واشترط سموه في هذا القانون أن يكون استمداده من الكتاب والسنة ليكون فيه حفاظ على الأمن والمصالح العامة والخاصة .

والحق أن تقنين الفقه ليس عملاً بالقوانين الوضعيه ، وهذا موضع الإشكال لدى كثير ممن اعترض على هذا الكلام ، وإنما هو إلزام القضاة بقول واحد في كل مسألة ، وعدم ترك كل قاض يحكم بما يؤدي إليه اجتهاده .

والحقيقة : أن هذا كان هو المعمول به في عهد الملك عبدالعزيز رحمه حتى نهاية عهد الملك فيصل ، وذلك أن تعميم مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم قد ألزم القضاة بالحكم وفق كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع ، وكان هذا بمثابة التقنين ، لأن الكتاب دَوَّن في كل مسألةٍ رأياً واحداً بدليله ،وليس هناك فرق بينه وبين التقنين سوى ترقيم المواد ، وظل هذا هو المعمول به دون أن يصدر نظام ملكي به ، ومع تقادم الزمن ، بدأ القضاة شيئاً فشيئا يتساهلون في تطبيق تعميم الشيخ  ابن إبراهيم ، إلى أن وصل الحال إلى ما يشبه الفوضى في الأحكام القضائية ،ولِيَ كتاب في هذا الشأن منشور على الإنترنت اسمه :”الإلزام بالمذهب في القضاء والفتوى والتعليم” .

فما اعتمده سموه هو الأصلح إن شاء الله تعالى وهو رجوع إلى الأصل وليس خروجاً عنه .

والسياحة والشركات إنما هي مثال على المتضررين من عدم الإلزام بحكم واحد في القضاء ، وإلا فالمتضررون من المتاقضين المواطنين والمقيمين كثر ، ونسأل الله تعالى أن يكون هذا التنظيم القضائي مفتاح خير .

وكان آخر حديث سموه عن الهوية هو أن الهوية لا يمكن القلق عليها إلا إذا كُنَّا غير واثقين فيها.

وهذا الكلام أيضاً مما أجاد فيه سموه وأفاد ، وسموه يعلم أيضاً أن الهوية الشخصية لكثير من بلاد العالم تُواجه حرباً عالمية هي حرب الهيمنة الثقافية التي هي أحد طرق الهيمنة السياسية ، وقد استخدمها قبل قرنين الاستعمار الإنجليزي والفرنسي العسكريين فكانت خسائرهما الاستعمارية أقل بكثير من خسائر الدول الاستعمارية التي لم تتبنَ استراتيجية حرب الهوية بشكل جيد كالاستعمار الإيطالي والهولندي .

واليوم لا نشك أن هناك حرب هوية من دول أخر وبمقاصد أخرى أيضا ؛ ودولتنا بما حباها الله من عراقة تُعَدُّ أعظم المستهدَفين ثقافياً ، ولهذا فإن المواطن على ثقة بأن الدولة ملتفتة إلى هذا الأمر وتعمل وسوف تستمر تعمل على سن ما يحمي الهوية من قوانين في جميع مؤسساتها ، التعليمية والإعلامية والترفيهية والسياحية ، وفرض مثل هذه القوانين التي تحمي الهوية كفيل بأن يزيد المواطن شعوراً بفخر على فخر وأمن على أمن .

وأختم المقال بأن أسأل الله في علاه أن يحفظ وطننا وقادته وأن يبقي رايته خفاقة يستظل بها أهلها والمسلمون عامة . 

د محمد السعيدي

التعليقات

9 ردود على “الهوية في حوار ولي العهد بين تأويل الأهوائيين وطعن المناوئين ”

  1. يقول أحمد بن مهنا الصحفي:

    لافض فوك لافض فوك
    كم نحتاج مثل هذا الفكر ليعي ويترجم للآخرين ويقرب لهم المعاني التي صُعب عليهم فهمها ، فأوكلوا أمرها إلى تفسيرات مدادها ظنون هرمة كرؤية من بعينيه غطش وهو لا يدري ..
    قد تابعنا لقاء صاحب السمو الملكي ولي العهد بكل ثقة فيه وبكل سرور فهو ابن الملك خادم الحرمين حفظه الله وحفيد المؤسس رحمه الله .
    جزاك الله خيرا د. محمد وزادك توفيقا وحفظك .

  2. يقول أم سعود:

    بارك الله فيك ونفع بك و أصلح لك النية والذرية ، كم فسرت لنا ما أشكل علينا جعله الله في ميزان حسناتك، وبارك الله في ولي العهد وسدده و وفقه وأعزه بالإسلام على من عاداه ورزقه البطانة الصالحة وجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

  3. يقول عبدالله الجميري:

    احسنت جزاك الله خير ونفع بك البلاد والعباد

  4. يقول سعد الزير:

    ماشاء الله على الدكتور السعيدي فهم فأفهم ولم يترك مجالاً لأعداء دولة الإسلام من الليبراليين والحزبيين الخارجين على الدولة في تواجهاتهم وإنتماءآتهم .
    فشكراً للدكتور على ما قدمه من شرح وافي

  5. يقول هشام جمبي:

    جزاك الله عنا كل خير .. شيحنا الفاضل ..
    كنا نحتاج هذه الإضاء من هذه الزاوية ليظهر جمال الصورة .. كتب الله اجركم ورفع الله قدركم في الدارين

  6. يقول خالد العمران:

    جزاك الله خير كثيراً ما تنور عقولنا بأشياء نجهلها أو ألتبس الأمر فيها علينا أو نسيناها
    جزاك الله خير

  7. يقول عبد العزيز الحسين:

    👍 👍 👍 جزاك الله خير ا فندت كلام الأمير محمد بن سلمان من الناحية الدينية والشريعة افضل تفنيد في وجه الليبراليين والعلمانيين وأصحاب الإسلام السياسي ممن يدعون الوطنية وهم ابعد الناس عنها وباقي شرذمة المشردين الذين يتغنون بالدمقراطية وحرية الرائ وهم اول من يحاربها في قنواتهم او وسائل التواصل الاجتماعي

  8. يقول م.م:

    شيخنا وضحت وازلت الاشكال عن اذهان من تلقفتهم السنة واقلام المتربصين بهذه البلاد واهلها وانصفت فجزاك الله خيرا وحغظ بلاد الحرميم وحكامها وعلمائها وشعبها من كيد الكائدين وحسد الحاسدين ومؤامرات ودسائس الاعداء

  9. يقول بدر:

    جزاك الله خيرا.. ولكن سؤالين ارجو ان ترفعوا عنا الغبش فيها…
    اولا قوله الاخذ بالسنة المتواتره فقط فى العقوبات البدنيه كما وضحت فضيلتكم اين هذا الملام من اهل العلم فقد سمعنا اهل العلم كالشيخ بن باز والفوزان وغيرهما يقولون بالاخذ بحديث الاحاد طالنا صحيحة فى كل شئ ولم يفرقوا بين المتواتر والاحاد ولكن القياس والفيصل هو الصحة…
    ثانيا هل ما يحدث فى المملكة من فساد وغناء فاحش ومجون البس مجمع على حرمته فاين كتاب الله وسنته من ذلك او احاديث متواتره تقول بذلك… ولكم وافر التقدير والاحترام واسال الله ان يحفظ بلد رسولنا وصحابته بلد التوحيد بلد شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب بلد الحرمين الشريفين من كل مكروه وشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.