الفكر الثوري من الحاكمية إلى فلسفة الحكم

تكبير الخط تصغير الخط

حينما توجد في أي عصر من العصور أمة ضائعة تائهة لا تملك أَثَرَةً من نبوة ،أو بقية من فِطرة ترجع إليها، أو علم قديم صحيح تتوارثه أجيالها ،فإن الخرافة والخيالات البائسة تصبح المتحكمةَ بجميع تصوراتها للعالم الذي تعيش فيه بجزءيه ، الغائبِ والمحسوس ،بجميع تفاصيلهما، ،إبتداءً بأسباب وجود هذا العالم وأقسامه ،وليس انتهاء بالإنسان وتكويناته المحسوسة وغير المحسوسة .

لذلك فإن الأذكياء في تلك الأمة التائهة لا تستطيع الخيالات والخرافات التي أنتجها الجهل وتَغَيُّب الفطرة والبعد عن عصر النبوات أن تُقنعهم بجواب الأسئلة الفِطرية التي تعتلج في صدر كل إنسان لم يتذوق حلاوة جوابها الذي يبذُرُه الإيمان والمعارفُ النبوية في النفوس.

ولذلك يعمر سوقُ الفلسفة في الأماكن والأزمان البعيدة عن النبوات والمحكومة بشعوذات السحرة والكهان كالهند والصين القديمتين ، وأخيراً اليونان التي كُتِب لفلاسفتها بقاءُ الذكر أكثر ممن قبلهم ، ومع ضخامة تراثهم الذي لا يُنكر أثرُه في الطب والفيزياء والفلك والمنطق والأدب والنقد ،إلا أن كل تلك العلوم قد انفصلت عن الفلسفة منذ شيوع المنهج التجريبي ،واستقلت بذاتها ولم يعد من العلوم منتسباً إلى الفلسفة ،إلا ما يستحيل أو يعسر أن يُدرك بالتجارب، وهو الميتا فيزيقا أو ما وراء الطبيعة ، الذي يبحث في عالم الغيب بكل تفاصيله ،الإله والقضاء والقدر ومصير الحياة وغايتها ،وأيضا علم الأخلاق وما يتبعه من أبحاث في السلوك والمجتمع وكذلك فلسفة الحُكم ؛هذه الثلاثة تحديداً هي الباقية حتى اليوم من الفلسفة ،وفي جميعها من عهد سقراط حتى اليوم لم يستطع الفلاسفة أن يجدوا جواباً مقنعاً لأنفسهم فضلاً عن أن تقتنع به مجتمعاتهم أو الأمم من بعدهم ، ولهذا لا تجد منذ الأزل وحتى العصر الحديث فيلسوفاً أصبح بفضل آرائه وحلوله للمشكلات الفكرية قائداً مجتمعياً ، بل جُلُّهم يعيشون ويموتون بشكل بائس بدءً بسقراط[٣٩٩ق م]الذي صَوَّتت الجماهير على إعدامه ،وليس انتهاء بسارتر [ت١٩٨٠]الذي نقض كل فلسفته وهو يعاني نزعات الاحتضار ، ربما يعيش كثير منهم ويموتون ومجتمعاتهم لا تعرف عنهم شيئاً ، ولا يبقى منهم سوى اختلافاتهم في كل المسائل التي لا يعرفهم بها سوى المشتغلين من النُخَب بتتبع آثارهم ، ولم تَبْن فلسفاتهم طوال التاريخ سوى شيئ واحد، وهو الألفاظ التي تطورت حتى أصبحت ذات سياق أُسلوبي  قوي وأخَّاذ ؛لكنها في الحقيقة ليست إلا  تعبيراً عن أزمات فكرية نفثها أصحابها على أوراقهم وباتت في صدور اللائذين  بهم . 

لقد عاشت أوروبا في مطلع العصور الوسطى الظروف نفسها التي عاشها أذكياء اليونان في عصور ما قبل الميلاد ، فبعد أن انفتحت الشعوب الأوروبية على المسلمين عبر الأندلس  وعبر الحملات الصليبية ،وجدوا أن كهنة الكنيسة الذين استحوذوا على عقولهم وقلوبهم ومقدرات أراضيهم وسياسة حكامهم لا يُقَدِّمُون أيَّ حل مقبول عقلاً لأي مشكلة غيبية أو أخلاقية أو سياسية ، ومن هنا راجت من جديد لديهم سوق الفلسفة ، وأصبح الناس يبحثون ،لعلهم يجدون عند الفلاسفة مالم يجدوه عند الكُهان ، فكان الفلاسفة الأوروبيون يشكلون البديل المنشود عن خرافات الدين المُحَرَّف منذ بواكير عصور النهضة وحتى اليوم .

لذلك فإن أي أمة يسودها القرآن والسنة ليست أبداً في حاجة لتصورات الفلاسفة عن الله والكون والحياة والأخلاق ؛ وأي أمة مستقرة سياسياً لديها وسائلها الخاصة في دعم استقرارها وتثبيت عدالتها ليست في حاجة إلى تصورات الفلاسفة عن الحكم والسياسة ومصادر الحق ؛ بل إن الأمة المسلمة المستقرة إذا ابتليت بالفلسفة فإنما انتقل حالُها من الوحدة إلى الفرقة ومن اليقين إلى الشك ومن الحق إلى الباطل ؛ ولهذا لم يكن التحذير من الفلسفة أمراً خاصاً بعلماء الدعوة السلفية أو أتباع ابن تيمية أو محمد بن عبدالوهاب كما يُحاول البعض أن يوهم بذلك  ؛ وإنما أمر أطبق عليه عقلاء المسلمين ، فأبو حامد الغزالي {تـ٥٠٦ ]المفكر الفقيه الأصولي المتكلم الفيلسوف هو صاحب كتاب تهافت الفلاسفة وليس ابن تيمية ، وكذلك كتاب الذخيرة في الرد على الفلاسفة هو لعلاء الدين الطوسي الحنفي [تـ٨٨٧] وغيرهم كثير ، ومبنى تجافي علماء الإسلام عن الفلسفة ليس الانغلاق أو ما إلى ذلك من الافتراءات الواهية ؛ وإنما لأن الفلسفة تُجدف في أمور الوحي والدين بأشتات من الضياع على خلاف ما جاء به الوحي والدين .

والذين ينادون اليوم بالفلسفة في بلادنا فيما يبدو لي ثلاثةُ أصناف : الأول :أناس لديهم من الانهزامية الحضارية أو الحقد على واقعهم وتراثهم ما يجعلهم يتعلقون بكل منتج غربي ، والغالب أن ذلك مع جهل بحقيقة ما ينادون به . 

الثاني: أصناف من الليبراليين والماركسيين القدامى ، يرون أن الترويج للفلسفة على مستوى رسمي يعني فتح الباب لنقد الدين والتراث والمألوف والمؤسسة الدينية والمنتج الديني تحت غطاء علمي مزعوم وربما تحت مظلات أكاديمية وإعلامية.

الثالثة :وهي الفئة الأخطر ، فئة صادقة في ليبراليتها ، وتريد النسج على منوال تجربة الإخوان المسلمين في إشاعة الفكر الثوري الذي هو جزء في الفكر السياسي لدى فلاسفة الحكم الأوروبيين ؛ وقد أشاع الإخوان الفكر الثوري عبر نظرية الحاكمية التي هي فهم خارجي لقوله تعالى {إن الحكم إلا لله } الأنعام ٥٧ ، كفَّروا بها الحكام وسَوَّغُوا الخروج عليهم ، فانبثقت عنهم معظم الحركات الإرهابية الثورية ؛ ولن يكون مثيراً للعجب أن نرى من أصحاب التوجهات الليبرالية من يطمح إلى إيجاد فكر ثوري تحت مظلة أراء فلاسفة الحكم الأوروبيين ، فكما شهدت بلادنا في أوائل الثمانينات الهجرية أفكاراً  يسارية ثورية ، هي نتاج فلسفات هيجل وإنجلز وماركس  ، وكما شهدت في عشر الأربعمائة بعد الألف وما بعدها أفكاراً ثورية ذات جذور إخوانية ، فإني لا أستبعد أن قسماً من دعاة الفلسفة سيسعون لتهيئة الجو لإظهار فكر ثوري ليبرالي لا يُمكن حصوله إلا بتربية الأذهان على التساؤل المطلق والنقد المطلق غير المنضبط بضوابط الكتاب والسنة كما هو حال الفلسفة ، فلا يمكن للمطالبين برفع لواء الفلسفة أن يقولوا للمشتغلين بها عليكم بما وراء الطبيعة وفلسفة الأخلاق والجمال ، واحذروا فلسفة الحكم .

أو يقال لهم عليكم بفلسفة جون لوك [١٧٠٤] في إنكار الفطرة ، واحذروا فلسفته في تأسيس الحكومة وصلاحيات الملك ،وهكذا الأمر في كل أنماط الفلسفة والفلاسفة الذين كانوا  بأفكارهم مُشعلي جذوة الثورات في أوروبا من أمثال مونتسكيو[١٧٥٥] وديفيد هيوم[١٧٧٦] وجان جاك روسو[١٧٧٨].

نعم لقد غزانا الفكر الثوري في سالف الأيام من بوابة الماركسية والقومية فقلعته الدولة من جذوره ،ثم غزانا من بوابة الحاكمية وهاهي اليوم تحرز النجاح الكبير في اقتلاعه من جذوره وهاهو يتأهب اليوم لغزونا من بوابة الفلسفة ، وأتمنى أن تكنسه من الأرض قبل أن يكون له جذور .

التعليقات

5 ردود على “الفكر الثوري من الحاكمية إلى فلسفة الحكم”

  1. يقول متابع من مصر:

    اللهم سلم بلاد الحرمين من كل مكروه وسوء و جميع بلاد المسلمين

  2. يقول متابع من مصر:

    ونجنا من الفتن ما ظهر منها و مابطن اللهم امين

  3. يقول غير معروف:

    اللهم اهد قومي فانهم لايعلمون

  4. يقول ابو عبدالرحمن:

    عرض جميل ومركز , وفقك الله .
    ونسأل الله عز وجل ان يتم وأد هذه الفتنة في مهدها.
    وان يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل مكروه

  5. يقول ابو عثمان:

    هذا المقال أتمنى أن يقرأه ويعي مضامينه كل مسؤول في المملكة وفي غيرها من الدول الإسلامية فهو تنبيه خبير وتحذير محب لوطنه وقيادته. فجزاه الله خيراً ونفع بعلمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.